وكان ذا بأس ونجدة ، بالكمون في جنان إلى جانب الكنيسة ملتفّة الأشجار ، لعلّه أن يظفر له بعلج يقف به على خبر القوم ، ففعل ، ودعاه ضعف عقله إلى أن صعد في بعض تلك الأشجار ، وذلك أيام الثمر ، ليجني ما يأكله ، فبصر به أهل الكنيسة ، وشدّوا عليه ، فأخذوه فملكوه ، وهم في ذلك هائبون له منكرون لخلقه ، إذ لم يكونوا عاينوا أسود قبله ، فاجتمعوا عليه ، وكثر لغطهم وتعجّبهم من خلقه ، وحسبوا أنه مصبوغ أو مطليّ ببعض الأشياء التي تسوّد ، فجرّدوه وسط جماعتهم ، وأدنوه إلى القناة التي منها كان يأتيهم الماء ، وأخذوا في غسله وتدليكه بالحبال الحرش (١) ، حتى أدموه وأعنتوه (٢) ، فاستغاثهم ، وأشار إلى أن الذي به خلقة من بارئهم ، عزّ وجلّ ، ففهموا إشارته ، وكفّوا عنه (٣) وعن غسله واشتدّ فزعهم منه ، ومكث في إسارهم سبعة أيام لا يتركون التجمّع عليه والنظر إليه إلى أن يسّر الله الخلاص ليلا ، ففرّ وأتى الأمير مغيثا فخبّره بشأنه وعرّفه بالذي اطّلع عليه من شأنهم (٤) ، وموضع الماء الذي ينتابونه ، ومن أيّ ناحية يأتيهم ، فأمر أهل المعرفة بطلب تلك القناة في الجهة التي أشار إليها الأسود حتى أصابوها ، فقطعوها عن جريتها إلى الكنيسة ، وسدّوا منافذها ، فأيقنوا بالهلاك حينئذ ، فدعاهم مغيث إلى الإسلام أو الجزية ، فأبوا عليه ، فأوقد النار عليهم حتى أحرقهم فسمّيت كنيسة الحرقى ، والنصارى تعظّمها لصبر من كان فيها على دينهم من شدّة البلاء ، غير أنّ العلج أميرهم رغب بنفسه عن بليتهم عند إيقان الهلاك ، ففرّ عنهم وحده ، وقد استغفلهم ورام اللحاق بطليطلة ، فبلغ (٥) خبره إلى مغيث ، فبادر الركض خلفه وحده ، فلحقه بقرب قرية تطليرة هاربا وحده ، وتحته فرس أصفر ذريع الخطو ، وحرّك مغيث خلفه ، فالتفت العلج ودهش لمّا رأى مغيثا قد رهقه ، وزاد في حثّ فرسه فقصر به ، فسقط عن الفرس واندقّ (٦) عنقه ، فقعد على ترسه مستأسرا قد هاضته السقطة (٧) ، فقبض عليه مغيث ، وسلبه سلاحه ، وحبسه عنده ليقدم به على أمير المؤمنين الوليد ، ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره ؛ لأنّ بعضهم استأمن وبعضهم هرب إلى جلّيقيّة ، وفي رواية أنّ مغيثا استنزل أهل الكنيسة بعد أسره لملكهم ، فضرب أعناقهم جميعا ، فمن أجل ذلك عرفت بكنيسة الأسرى وأنّ مغيثا جمع يهود قرطبة فضمهم إلى مدينتها استنامة إليهم ، دون النصارى ، للعداوة بينهم ، وأنه اختار القصر لنفسه ، والمدينة لأصحابه.
وأما من وجّه إلى مالقة ففتحوها ، ولجأ علوجها إلى جبال هنالك ممتنعة ، ثم لحق ذلك
__________________
(١) الحبال الحرش : الخشنة.
(٢) أعنته : أصابه بالعنت والمشقّة.
(٣) عنه : ساقطة في ب.
(٤) شأنهم : ساقطة في ب.
(٥) في ب : فنمي.
(٦) في ب : واندقّت.
(٧) هاضته السقطة : كسرت عظامه.