الأبد فارقناه ، وذكرت اجتيازك بين العلمين ، وقطعك متن اليمّ في يومين ، وأنّك انتقلت من ذوات الألواح ، إلى عذبات الأدواح ، ومن متهافت الشّراع ، إلى منابت اليراع ، ومن سكنى بيت السكان ، إلى منزل به الفلاح والملاح يشتركان ، حيث اجتمع الضّبّ والنون ، وأينع التين والزيتون ، وظلّلت الساحات ، وذلّلت الثمار المباحات ، فلا تشرقنا يا أصيل ، ولأمّ تلك الأرض الويل ، انتهى.
ووصل هذا الكلام بالأبيات التي تقدّمت قريبا ، وهي قوله «زدنا على النائين عن أوطانهم إلخ».
وكتب رحمه الله عن أهل شاطبة أيام كان قاضيا بها ، مهنّئا أمير المسلمين ابن هود المستولي على الأندلس آخر دولة الموحّدين بوصول الكتاب العباسي الكريم إليه من بغداد بولاية الأندلس ، إذ كان ابن هود حين ثار على الموحدين يدعو إلى الخليفة العباسي الذي كان أكثر الملوك في ذلك الزمان يدينون بطاعته ، بما نصّه بعد الصدر :
أمّا بعد ، فكتب العبيد ـ كتب الله تعالى إلى المقام (١) العلي المجاهدي المتوكلي سعادة لا تبلغ أمدا إلّا تخطّته! ويدا علوّها أثبتته أيدي الأقدار وخطّته ـ من شاطبة وبركات الأمر المجاهديّ المتوكلي ، والعهد الواثقي المعتصمي ، تنسكب كالمطر ، وتنسحب على البشر ، وتقضي بعادة النصر والظفر ، وسعادة الورد والصّدر (٢) ، والحمد لله ، وعند العبيد من أداء فروض الخدم ، والقيام بحقوق النّعم ، ما عقدت عليه ضمائرهم ، وسمت إليه نواظرهم ، واشترك فيه بادبهم وحاضرهم ، فجناب أملهم فسيح ، ومتجر خدمتهم ربيح ، وحديث طاعتهم حسن صحيح ، وبسنى النظر العليّ اهتداؤهم ، وفي الباب الكريم رجاؤهم ، وبصدق العبودية اعتزازهم وإليها اعتزاؤهم (٣) ، والله تعالى ينهضهم بوظائف المثابة العلية ، ويحملهم على المناهج السّويّة ، ووصل الكتاب الكريم متحلّيا برواء الحق ، ناطقا بلسان الصدق ، واصفا من التشريف والفخار المنيف ، ما صدر عن إمام الخلق ، فلا بيان أعجب من ذلك البيان ، ولا يوم كذلك اليوم تبدّى نظره للعيان ، أو تأدّى خبره في أخبار الزمان ، نثرت فيه الخلع العباسية في أعلى الصور ، وبرز منها للعيون ما يعثر البليغ عند وصفه في ذيل الحصر ، ويهدي سواده سواد القلب والبصر ، فيا لمشهدها ما أعجب ما كان ، ومرآها الذي راع الكفر وراق الإيمان ، وأشبه
__________________
(١) في ب : للمقام.
(٢) الصّدر : بفتح الصاد والدال : الرجوع عن الماء بعد وروده.
(٣) اعتزاؤهم : انتسابهم.