ألممت به ، ولم أحقّق النظر فيه لجلالته في نفسي ، فقال له : قد أجّلتك لذلك ، فتفرّغ للنظر فيما بقي عليك منه ، ثم أحضره بعد أيام ، فقال : إن الذي سألتك عنه جدّ مني ، مع أني والله ما أثق بحقيقته ، إذ كان من غيب الله الذي استأثر به ، ولكني أحبّ أن أسمع ما عندك فيه ، فالنفس طلعة (١) ، وألزمه الصّلة أو العقوبة ، فقال : اعلم أيها الأمير أنه سوف يستقرّ ملكك ، سعيدا جدّك ، قاهرا لمن عاداك ، إلّا أنّ مدّتك فيه فيما دلّ عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها ، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال : يا ضبّي ، ما أخوفني أن يكون النذير كلّمني بلسانك ، والله لو أنّ هذه المدّة كانت في سجدة لله تعالى لقلّت طاعة له ، ووصله وخلع عليه ، وزهد في الدنيا ، ولزم أفعال الخير والبرّ.
ومن حكاياته في الجود أنه كان قاعدا لراحته في علّية على النهر في حياة والده ، فنظر إلى رجل من قدماء صنائعه من أهل جيّان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة ، فأنكر ذلك ، وقدّر شرّا وقع به من قبل أخيه سليمان ، وكان واليا على جيّان ، فأمر بإدخاله عليه ، فقال له : مهيم يا كناني ، فلأمر ما (٢) ، وما أحسبك إلّا مزعجا لشيء دهمك ، فقال : نعم يا سيدي ، قتل رجل من قومي رجلا خطأ ، فحملت الدّية على العاقلة ، فأخذ بها من كنانة عامّة ، وحمل عليّ من بينهم خاصّة ، وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك ، فمدّ هشام يده إلى جارية كانت وراء الستر ، وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها ، وقال له : دونك هذا العقد يا كناني ، وشراؤه عليّ ثلاثة آلاف دينار ، فلا تخدعنّ عنه ، وبعه ، وأدّ عن نفسك وعن قومك ، ولا تمكّن الرّجل من اهتضامك ، فقال : يا سيدي ، لم آتك مستجديا ولا لضيق المال عمّا حملته ، ولكني لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر على (٣) عزّ نصرك ، وأثر ذبّك وامتعاضك ، فأتمجّد بذلك عند من يحسدني على الانتماء إليك ، فقال هشام : فما وجه ذلك؟ فقال : أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عنّي ، والقيام بذمّتك لي ، فقال : أمسك العقد ، وركب من حينه إلى والده الداخل ، واستأذن عليه في وقت أنكره ، فانزعج ، وقال : ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلّا أمر مقلق ، ائذنوا له ، فلمّا دخل سلّم عليه ، ومثل قائما بين يديه ، فقال له : اجلس يا هشام ، فقال : أصلح الله الأمير سيدي ، وكيف جلوسي بهمّ وذلّ مزعج ، وحقّ لمن قام مقامي أن لا يجلس إلّا مطمئنا ، ولن يقعدني إلّا طيب نفسي بإسعاف الأمير لحاجتي ، وإلّا رجعت على عقبي ، فقال له : حاش لك من انقلابك خائبا ، فاقعد مجابا مشفّعا ، فجلس ، فقال له
__________________
(١) طلعة ـ بضم الطاء وفتح اللام ـ كثيرة التطلع إلى الشيء والتشوف إليه.
(٢) في ب : فلأمر ما جئت.
(٣) في ب : عليّ.