بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله ، ومنه خرجت إليك ، وأمرت بملازمتك مذكّرا بالنهوض عند فراغك ، وقال : افعل راشدا. وجلس الخصيّ جانبا حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمل وأفسح (١) ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق ، فلمّا انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب ، وقضى حاجته من لقائه ، ثم صرفه على ذلك الباب ، فأعيد إغلاقه على إثر خروجه. قال ابن مفرّج : ولقد تعمّدنا في تلك العشيّة إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود إغلاقه بدبر القصر لنرى تجشّم الخليفة له ، فوجدناه مفتوحا كما وصف الخصيّ (٢) ، وقد حفّه الخدم والأعوان منزعجين ما بين كنّاس وفرّاش متأهّبين لانتظار أبي إبراهيم ، فاشتدّ عجبنا لذلك ، وطال تحدّثنا عنه ، انتهى. فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك مع العلماء (٣) ، قدّس الله تلك الأرواح!.
ثم توفي الناصر لدين الله ثاني ـ أو ثالث ـ شهر رمضان ، من عام خمسين وثلاثمائة ، أعظم ما كان سلطانه ، وأعزّ ما كان الإسلام بملكه.
قال ابن خلدون : خلّف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات ، انتهى.
وقال غير واحد : إنه كان يقسم الجباية أثلاثا : ثلث للجند ، وثلث للبناء ، وثلث مدّخر ، وكانت جبابة الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستّين ألف دينار ، وأمّا أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان.
وحكي أنه وجد بخطّ الناصر ـ رحمه الله! ـ أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا ، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما ، فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها ، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها ، هذا الخليفة الناصر حلف السعود ، المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ، ملكها خمسين سنة وستة ـ أو سبعة ـ أشهر وثلاثة أيام ، ولم تصف له إلّا أربعة عشر يوما ، فسبحان ذي العزّة القائمة ، والمملكة الدائمة لا إله إلّا هو.
__________________
(١) في ب : كأفسح.
(٢) في ب : فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحا.
(٣) في ب : معهم.