ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامّة بمجلسه ، فنادى : «يا ناصر الحق ، إنّ لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك» ، وأشار إلى الفتى صاحب الدّرقة ، وكان له فضل محلّ عنده ، ثم قال : وقد دعوته إلى الحاكم ، فلم يأت ، فقال له المنصور : «أو عبد الرحمن بن فطيس بهذا العجز والمهانة ، وكنّا نظنّه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك يا هذا» ، فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصف (١) ، فقال المنصور : «ما أعظم بليّتنا بهذه الحاشية»! ثم نظر إلى الصّقلبي وقد ذهل عقله ، فقال له : «ادفع الدّرقة إلى فلان ، وانزل صاغرا ، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحقّ أو يضعك» ، ففعل ، ومثل بين يديه ، ثم قال لصاحب شرطته الخاصّ به : «خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفّذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحقّ من سجن أو غيره» ، ففعل ذلك ، وعاد الرجل إليه شاكرا ، فقال له المنصور : «قد انتصفت (٢) أنت» ، اذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممّن تهاون بمنزلتي». فتناول الصّقلبيّ بأنواع من المذلّة ، وأبعده عن الخدمة.
ومن ذلك قصة فتاه الكبير المعروف بالبورقي (٣) مع التاجر المغربي ؛ فإنهما تنازعا في خصومة توجّهت فيها اليمين على الفتى المذكور ، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور ، وإليه أمر داره وحرمه ، فدافع الحاكم ، وظنّ أنّ جاهه يمنع من إحلافه. فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلّما من الفتى ، فوكّل به في الوقت من حمله إلى الحاكم ، فأنصفه منه ، وسخط عليه المنصور ، وقبض نعمته منه ، ونفاه. ومن ذلك قصة محمد فصّاد (٤) المنصور وخادمه وأمينه على نفسه ، فإنّ المنصور احتاجه يوما إلى الفصد ، وكان كثير التّعهد له ، فأنفذ رسوله إلى محمد ، فألفاه الرسول محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب (٥) لحيف ظهر منه على امرأته قدّر أنّ سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة. فلمّا عاد الرسول إلى المنصور بقصّته ، أمر بإخراجه من السجن مع رقيب من رقباء السجن يلزمه إلى أن يفرغ من عمله عنده ، ثم يردّه إلى محبسه. ففعل ذلك على ما رسمه ، وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله ، فقطع عليه المنصور ، وقال له : «يا محمد ، إنّه القاضي ، وهو في عدله ، ولو أخذني الحقّ ما أطقت الامتناع منه ، عد إلى محبسك أو اعترف بالحقّ فهو الذي يطلقك». فانكسر الحاجم ، وزالت
__________________
(١) من غير نصف : من غير إنصاف.
(٢) انتصفت : أخذت حقك كاملا.
(٣) في البيان المغرب : بالميورقي.
(٤) الفصاد : فصد يفصد فصدا وفصادا : شق عرق المريض. والفصّاد. الحجام.
(٥) هو محمد بن يبقى بن زرب أحد صدور الفقهاء في زمانه بالأندلس (انظر تاريخ قضاة الأندلس صفحة ٧٧).