الحزن في نفسه ، ولحقه لأجل ذلك علّة اضطرب فيها. وحضر الدفع إلى التجّار ، فحضر الرجل لذلك بنفسه ، فاستبان للمنصور ما بالرجل من المهانة والكآبة ، وفقد ما كان عنده من النشاط وشدّة العارضة ، فسأله المنصور عن شأنه ، فأعلمه بقصّته ، فقال له : هلّا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر؟ فكنّا نستظهر على الحيلة ، فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟ قال : مرّ مشرفا على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك ، يعني الرملة ، فدعا المنصور شرطيّه الخاصّ به ، فقال له : جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة ، فمضى وجاء بهم سريعا ، فأمرهم بالبحث عمّن غيّر حال الإقلال منهم سريعا ، وانتقل عن الإضافة دون تدريج ، فتناظروا في ذلك ثم قالوا : يا مولانا ، ما نعلم إلّا رجلا من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السّبق بأقدامهم عجزا عن شراء دابّة ، فابتاع اليوم دابّة ، واكتسى هو وولده كسوة متوسّطة ، فأمر بإحضاره من الغد ، وأمر التاجر بالغدوّ إلى الباب ، فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور ، فاستدناه والتاجر حاضر ، وقال له : سبب ضاع منّا وسقط إليك ، ما فعلت به؟ قال : هو ذا يا مولاي ، وضرب بيده إلى حجزة (١) سراويله فأخرج الصّرّة بعينها ، فصاح التاجر طربا ، وكاد يطير فرحا ، فقال له المنصور : صف لي حديثها ، فقال : بينا أنا أعمل في جناني (٢) تحت نخلة إذ سقطت أمامي ، فأخذتها وراقني منظرها ، فقلت : إنّ الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار ، فاحترزت بها ، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة ، وقلت : أقلّ ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها ، فأعجب المنصور ما كان منه ، وقال للتاجر : خذ صرّتك وانظرها ، واصدقني عن عددها ، ففعل وقال وحقّ رأسك يا مولاي ، ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها ، وقد وهبتها له ، فقال له المنصور : نحن أولى بذلك منك ولا ننغص عليك فرحك. ولو لا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفورا عليه ، ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره ، وللجنّان بعشرة دنانير ثوابا لتأنّيه عن فساد ما وقع بيده ، وقال : لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعناه جزاء ، قال : فأخذ التاجر في الثناء على المنصور ، وقد عاوده نشاطه وقال : والله لأبثّنّ (٣) في الأقطار عظيم ملكك ، ولأبيّننّ أنّك تملك طير أعمالك كما تملك إنسها ، فلا تعتصم منك ولا تمتنع ، ولا تؤذي جارك ، فضحك المنصور وقال : اقصد في قولك يغفر الله لك ، فعجب الناس من تلطّف المنصور في أمره وحيلته في تفريج كربته.
__________________
(١) الحجزة : موضع شدّ الإزار أو السراويل من وسط الإنسان ، ويكنى بطيب الحجزة عن عفة الإنسان.
(٢) جنان : جمع جنة ، وهي الحديقة.
(٣) في ب : ولأنبئنّ.