عبيدة (١) وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الرّدافة ، من أولي الشرف والإنافة وكانوا في الوقت أزمّة الملك وقوّام الخدمة ، ومصابيح الأمّة ، وأغير الخلق على جاه وحرمة ، فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعة ، ولبعض أسبابه الجامعة متابعة ، وشادوا بناءه ، وقادوا إلى عنصره سناءه ، حتى بلغ الأمل ، والتحف بمناه واكتحل ، وعند التئام هذه الأمور لابن أبي عامر استكان ، جعفر بن عثمان ، للحادثة ، وأيقن بالنكبة ، وزوال الحال وانتقال الرتبة ، وكفّ عن اعتراض محمد وشركته في التدبير ، وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير. وانثالوا على ابن أبي عامر فخفّ موكبه ، وغار من سماء العزّ كوكبه ، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه ، إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلّا اسمها ، وابن أبي عامر مشتمل على رسمها ، حتى محاه ، وهتك ظلّه وأضحاه. قال محمد بن إسماعيل : رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم ، وجوارحه باللواعج تضطرم ، وواثق الضاغط ينهره ، والزّمع يقهره ، والبهر والسّنّ قد هاضاه ، وقصّرا خطاه ، فسمعته يقول : رفقا بي فستدرك ما تحبّه وتشتهيه ، وترى ما كنت ترتجيه ، ويا ليت أنّ الموت يباع فأغلي سومه ، حتى يرده من أطال عليه حومه ، ثم قال : [الكامل]
لا تأمننّ من الزمان تقلّبا |
|
إنّ الزمان بأهله يتقلّب |
ولقد أراني والليوث تخافني |
|
فأخافني من بعد ذاك الثعلب (٢) |
حسب الكريم مذلّة ومهانة |
|
أن لا يزال إلى لئيم يطلب |
فلمّا بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلّم على أحد ، أو يومئ إليه بعين أو يد ، فلمّا أخذ مجلسه تسرّع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر فعنّفه واستجفاه ، وأنكر عليه ترك السلام وجفاه ، وجعفر معرض عنه ، إلى أن كثر القول منه ، فقال له : يا هذا ، جهلت المبرّة فاستجهلت معلّمها ، وكفرت النعم فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدّمها ، ولو أتيت نكرا ، لكان غيرك أدرى ، وقد وقعت في أمر ما أظنّك تخلص منه ، ولا يسعك السكوت عنه ، ونسيت الأيادي الجميلة ، والمبرّات الجليلة ، فلمّا سمع محمد بن حفص ذلك من قوله قال : هذا البهت بعينه ، وأيّ أياديك الغرّ التي مننت بها وعيّنت أداء واجبها؟ أيد كذا أم يد كذا؟ وعدّد أشياء أنكرها منه أيام إمارته ، وتصرّف الدهر طوع إشارته ، فقال جعفر : هذا ما لا يعرف ، والحق الذي لا يردّ ولا يصرف ، دفعي القطع عن يمناك ، وتبليغي لك إلى مناك ، فأصرّ
__________________
(١) في ب ، ه : آل أبي عبدة.
(٢) الليوث : جمع ليث ، وهو الأسد.