وإذا احتج الجهمى على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر ، وأنه لا يكفر ؛ ولا يخلد في النار ، واحتج بها على الوعيديين القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد ، قالوا : هذه متأولة ، وتأويلها أقرب من تأويل نصوص الصفات. وإذا احتج على المرجئة بالنصوص الدالة على أن الإيمان قول وعمل ونية ، يزيد وينقص. قالوا هذه النصوص قابلة للتأويل كما قبلته نصوص الاستواء والفوقية ، والصفات الخبرية ، فنعمل فيها ما عملتم أنتم في تلك النصوص.
فقد بان أنه لا يمكن أهل التأويل أن يقيموا على مبطل حجة من كتاب ولا سنة. ولم يبق لهم إلا نتائج الأفكار وتصادم الآراء. لا سيما وقد أعطى الجهمى من نفسه أن أكثر اللغة مجاز ، وأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ؛ وأن العقل إذا عارض السمع وجب تقديم العقل. بل نقول إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يقيموا على مبطل حجة عقلية أبدا.
وهذا أعجب من الأول. وبيانه : أن الحجج السمعية مطابقة للمعقول والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح بل هما أخوان وصل الله تعالى بينهما فقال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (الأحقاف : ٢٦) فذكر ما يتناول به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل ، وقال تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (الملك : ١٠) فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (يونس : ٦٧) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (الرعد : ١٤) وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد : ٢٤) فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبره بعقولهم ومثله قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (المؤمنون : ٦٨) وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق : ٣٧) فجمع بين السمع والعقل