تعالى بينهما بأحسن حكم خضعت له القلوب وأقرت به الفطر فقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
فتأمل هذا الكلام وعجيب موقعه في قطع الخصوم ، وإحاطته بكل ما وجب في العقل أن يرد به ما دعوه إليه ، بحيث لم يبق لطاعن مطعن ولا سؤال ، ولما كانت بهذه المثابة عظمها بإضافتها إلى نفسه الكريمة فقال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (الأنعام : ٨٣) وكفى بحجة أن يكون الله تعالى ملقيها لخليله أن تكون قاطعة لموارد العناد ، وقامعة لأهل الشرك والإلحاد.
وشبيه بهذه القصة قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة : ٢٥٨) لما أجاب إبراهيم صلىاللهعليهوسلم المحاج له في الله بأن الذي يحيى ويميت هو الله ، أخذ عدو الله في المغالطة والمعارضة بأنه يحيي ويميت ، بأنه يقتل من يريد ، ويستبقي من يريد ، فقد أحيا هذا وأمات هذا ، فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها بزعمه ، فإذا ادعى أنه يساوي الله في الإحياء والإماتة ، فإن كان صادقا فليتصرف في الشمس تصرفا تصح به دعواه ، وليس هذا انتقالا من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار ، وإنما هو إلزام للمدعي في طرد حجته إن كانت صحيحة.
ومن ذلك احتجاجه سبحانه على إثبات علمه بالجهات كلها بأحسن دليل وأوضحه وأصحه ، حيث يقول : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (الملك : ١٣) ثم قرر علمه بذلك بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟). وهذا أبلغ من التقرير. فإن الخالق لا بدّ أن يعلم مخلوقه ،