فإن تعارضهما فرع الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن المعارض. وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام معه في مقامات : أحدها صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما أخبر به ، فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة ، وإن زعم أنه مقر بها ، وإن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا لأفهامهم ، ومضمون هذا أنهم كذبوا للمصلحة. وهذه حقيقة قول هؤلاء. وهو عندهم كذب حسن. وإن أقر بأنه صادق فيما أخبر به ، فالكلام معه في المقام الثاني : وهو أنه هل يقر بأنه أخبر به أو لا يقر به. فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه دعا إلى الله وحارب أعداءه ، فإن أصر على إنكار ذلك فقد أنكر الأمور الضرورية كوجود بغداد ومكة.
وإن أقر أنه أخبر بذلك فالكلام معه في المقام الثالث : وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه ولفظه أو أراد خلافه؟ فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في المقام الرابع. وهو أن هذا المراد هل هو حقيقة في نفسه أو باطل ؛ فإن كان حقا لا يتصور أن يعارضه دليل عقلي البتة ؛ وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى مقام خامس ، وهو أنه هل يعلم الحق في نفس الأمر أو (لا) يعلمه؟ فإن قال : لم يكن عالما به فقد نسبه إلى جهل ، وإن قال كان عالما به ، انتقلنا معه إلى مقام سادس : وهو أنه هل يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم أنتم بزعمكم ، أم لم يكن ذلك ممكنا له؟ فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان تعجيزا له عن أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة اليهود ، وأوقاح المعتزلة والجهمية. وإن كان ممكنا له ولم يفعل ذلك غشا لأمته ، وتوريطا لهم في الجهل بالله وأسمائه وصفاته : واعتقاد ما لا يليق بعظمته فيه ؛ وأن الجهمية وأفراخ الصابئة واليونان نزهوا الله عما لا يليق به ، وتكلموا بالحق الذي كتمه الرسول. وهذا أمر لا محيد لكم عنه. فاختاروا أي قسم شئتم من هذه الأقسام. والظاهر أنكم متنازعون في الاختيار ، وأن عقلاءكم يختارون أن الرسول صلىاللهعليهوسلم كان يعرف الحق في خلاف ما أخبر به ، وأنه كان قادرا على التعبير عنه ولكن ترك ذلك خشية التنفير. فخاطب الناس خطابا جمهوريا بما يناسب عقولهم بما الأمر بخلافه. وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرسول وأقررتم بما جاء به.