الأدلة الدالة على صدق المخبرين خبر التواتر فإن أولئك لم يقم على صدق كل واحد منهم دليل ، ولكن اجتماعهم على الخبر دليل على صدقهم ، والرسل عليهم الصلاة والسلام قد قامت البراهين اليقينية على صدق كل فرد منهم ، فقد اتفقت كلمتهم وتواطأت أخبارهم على إثبات العلو والفوقية لله تعالى ، وأنه تعالى فوق عرشه ، فوق سماواته بائن من خلقه ، وأنه مكلم متكلم آمر ناه يرضى ويغضب ، ويثيب ويعاقب ، ويحب ويبغض ، فأفاد خبرهم العلم بالمخبر عنه أعظم من الأخبار المتواترة لمخبرها. فإن الأخبار المتواترة مستندة إلى حس قد يغلط ، وأخبار الأنبياء مستندة إلى وحي لا يغلط فالقدح فيها بالعقل من جنس شبه السوفسطائية القادحة في الحس والعقل (١) ولو التفتنا إلى كل شبهة يعارض بها الدليل القطعي لم يبق لنا وثوق بشيء نعلمه بحس أو عقل أو بهما. يوضحه :
الوجه السابع عشر : أن المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي تدرك بالحس والعقل ، بل لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه ، ولهذا كان إدراك السمع أعم وأشمل من إدراك البصر ، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة والغائبة ، والمعلومات التي تدرك بالحس. وهذا حجة من فضل السمع على البصر. ورجح آخرون البصر لقوة إدراكه وجزم بأنه يدركه ، وبعده من الغلط ؛ وفصل النزاع بينهما أن ما يدرك بالسمع أعم وأشمل ، وما يدرك بالبصر أتم وأكمل.
والمقصود أن الأمور الغائبة عن الحس (نسبة) المحسوس إليها كقطرة من بحر ، ولا سبيل إلى العلم بها إلا الخبر الصادق ، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء
__________________
(١) السوفسطائية ثلاثة مذاهب : الأول ينكر حقائق الأشياء ويزعم أنها أوهام وهم «العنادية» ، والثانى ينكر العلم بثبوت الشيء ولا يعدم ثبوته ولا ينكر نفس الحقائق ولا يثبتها ويزعم أنه شاك وشاك في أنه شاك وهم اللاأدريّة ، والثالث يزعم أن الحقائق تابعة للاعتقادات مع كونه ينكر ثبوتها وهم «العندية» ، وللمزيد انظر «تلبيس إبليس» لابن الجوزى الباب الخامس بتحقيقنا ط المكتب الثقافي بالقاهرة.