قول تلك الطائفة الأخرى المخالفة للسمع ، فكل طائفة تدعى فساد قول خصومها بالعقل ، يصدقهم أهل السمع على ذلك ، ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل.
وقد تضمنت دعوى الطوائف فساد ما يفهم العقل بشهادة بعضهم على بعض ، وشهادة أهل الوحي والسمع معهم ، ولا يقال : هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة الفرق كلها على بطلان ما دل عليه السمع وإن اختلفوا في أنفسهم ، لأن المطلوب أنهم كلهم متفقون على أن السمع دل على الإثبات ، ولم يتفقوا على أن العقل دل على نقيضه ، فيمتنع تقديم الدلالة التي لم يتفق عليها على الدلالة المتفق عليها ، وهو المطلوب.
الحادي والعشرون : أن الأمور السمعية التي يقال إن العقل عارضها كإثبات علو الله على خلقه ، واستوائه على عرشه ، وتكلمه ، ورؤية العباد له في الآخرة ؛ وإثبات الصفات له ، هي مما علم بالاضطرار أن الرسول جاء بها ، وعلم بالاضطرار صحة نبوته ورسالته ، وما علم بالاضطرار امتنع أن يقوم على بطلانه دليل وامتنع أن يكون له معارض صحيح. لأنه لو قام على بطلانه دليل لم يبق لنا وثوق بمعلوم أصلا لا حسي ولا عقلي. وهذا يبطل حقيقة الإنسانية ؛ بل حقيقة الحيوانية المشتركة بين الحيوانات. فإن لها تمييزا وإدراكا للحقائق بحسبها. وهذا الوجه في غاية الظهور ، غنى بنفسه عن التأمل ، وهو مبني على مقدمتين قطعيتين : إحداهما أن الرسول أخبر عن الله بذلك. والثانية أنه صادق ؛ ففي أي المقدمتين يقدح المعارض بين العقل والنقل؟!
الثاني والعشرون : أن دليل العقل هو إخباره عن الذي خلقه وفطره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إياه وأرشده إليه ، وذلك السمع هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلم به وأوحاه وعرف به الرسول ، فأمره أن يعرف الأمر ويخبرهم به ، ولا يكون أحدهما صحيحا حتى يكون الآخر مطابقا لمخبره ، وأن الأمر ما أخبر به ، وحينئذ فقد شهد العقل لخبر الرسول بأنه صدق وحق ، فعلمنا مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين ، بخبر الرسول به وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب في