للرسل بالعقول وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعلوه على خلقه ، وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم. فإن كانت تلك المعارضة باطلة فهذه أبطل وأبطل ، وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها ، وهذا لا محيد لهم عنه. يوضحه :
التاسع عشر : أن القرآن مملوء من ذكر الصفات والعلو على الخلق والاستواء على العرش وتكلم الله وتكليمه للرسل ؛ وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر ، والحياة والمحبة والغضب والرضا للرب سبحانه ، وهذا عند النفاة مثل وصفه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم ، كل ذلك مستحيل عليه تعالى من أعظم المنفرات عنه ، ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه ؛ ولم يعارضه أعداؤه في حرف واحد من هذا الباب مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه. فهلا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنفاة ، وقالوا قد أخبرتنا بما يخالف العقل الصريح ، فكيف يمكننا تصديقك؟ بل كان القوم على شركهم وضلالهم أعرف بالله وبصفاته من النفاة والجهمية ، وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السناوية والفارابية والطوسية (١).
العشرون : إن دلالة السمع على مدلوله متفق عليها بين العقلاء وإن اختلفوا في جهتها هل هي ظنية أو قطعية؟ وأرادت الرسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته ؛ أم أرادت الرسل إفهام غيره وتأويل تلك الأدلة وصرفها عن ظاهرها؟ فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها. ثم قال أتباع الرسل : مدلولها ثابت في الأمر وفي الإرادة ، وقال النفاة أصحاب التأويل : مدلولها منتف في الأمر وفي بعض الإرادة ، وقال أصحاب التخييل : مدلولها ثابت في الإرادة منتف في الأمر.
وأما دلالة ما عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليل واحد منها ، بل كل طائفة منهم تقول في أدلة خصومها : إن العقل يدل على فسادها لا على صحتها ، وأهل السمع مع كل طائفة في دلالة العقل على فساد
__________________
(١) يعني بهذه الأسماء : اتباع ابن سينا ، وأبي نصر الفارابي ونصير الدين الطوسي.