وأما الثاني وهو معارضة خبره بالعقل فكما حكى الله سبحانه عن منكري المعاد (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس : ٧٨) وأخبر سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم ، وعارضوا أخبار عن النبوات بعقولهم ؛ وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم ، وعارضوا أدلة نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم بعقولهم فقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟) (الزخرف : ٣١) ، وأنت إذا صغت هذه المعارضة صوغا مزخرفا وجدتها من جنس معارضة المعقول للمنقول.
وكذلك قولهم في قوله تعالى (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ : لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) (الفرقان : ٧ ، ٨). أي لو كان رسولا لخالق السموات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في المعيشة ؛ ولأغناه عن أكل الطعام ؛ ولأرسل معه ملكا من الملائكة أو ألقي إليه كنزا يغنيه عن طلب الكسب.
وعارضوا شرعه ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضة عقلية ، واستندوا فيها إلى القدر. فقال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ : كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام : ١٤٨ ـ ١٤٩) وحكى مثل هذه المعارضة في سورة النحل ، وفي سورة الزخرف ، وإذا تأملتها حق التأمل رأيتها أقوى بكثير من معارضة آيات الصفات بعقولهم ، فإن إخوانهم عارضوا بمشيئة الله للكائنات والمشيئة ثابتة في نفس الأمر ، والنفاة عارضوا بأصول فاسدة هم وضعوها من تلقاء أنفسهم ، أو تلقوها عن أعداء الرسل من الصابئة والمجوس والفلاسفة ، وهي خيالات فاسدة.
وبالجملة فمعارضة أمر الرسل أو خبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار. فهم سلف الخلق بعدهم ، فبئس السلف الخلف ، ومن تأمل معارضة المشركين