وقد فسر الإمام أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه وقال : «إنهم تأولوها على غير تأويلها» وبين معناها. وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهى ، وإن لم يعلموا الكيفية ، كما علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته.
فمن قال من السلف : إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهو أحق وأما من قال : إن التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهو غلط ، والصحابة والتابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وقال عبد الله بن مسعود : ما في كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، وقال الحسن البصري : ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها ، وقال مسروق : ما نسأل أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ، ولكن علمنا قصر عنه ، وقال الشعبي : ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها.
والمقصود أن معارضة العقل للسمع لا بدّ لصاحبها أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة ، وأسلمها هذا المسلك الرابع ، وقد علمت بطلانه ، وإنما كان أقلها (بطلانا) لأنه يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله ، فإن صاحبه يقول : لا أفهم من هذه النصوص شيئا ولا أعرف المراد بها. وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله والاخبار عن النصوص بالكذب.
السادس والعشرون : إن هؤلاء المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما (يبنون) أمرهم في ذلك على أقوال متشابهة مجملة تحتمل معاني متعددة ؛ ويكون ما فيها من الاشتباه في المعنى ، والإجمال في اللفظ يوجب تأويلها بحق وباطل فيما فيها من الحق يقبل من لم يحط بها علما بما فيها من الباطل لأجل الالتباس والاشتباه ، ثم يعارضون بما فيها من الباطل نصوص الأنبياء.