يعلم أحد معناها فرت إليه عقولهم وفطرهم وآراؤهم ، فسد هؤلاء باب الهدى والرشاد ، وفتح أولئك باب الزندقة والبدعة والإلحاد وقالوا : قد أقررتم بأن ما جاءت به الرسل في هذا الباب لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه ، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء ، فإنا نحن نعلم ما نقول ونثبته بالأدلة العقلية ، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما قالوه ولا بينوا مراد المتكلم به. وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك من الخطأ في العقل.
وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فالتأويل في مثل قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) (الأعراف : ٥٣) ، وقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : ٥٩) ، وقول يوسف : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (يوسف : ١٠٠) وقول يعقوب : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (يوسف : ٦٠) ، وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) (يوسف : ٤٥) ، وقال يوسف : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) (يوسف : ٣٧) فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما قال ابن عيينة «السنة تأويل الأمر والنهي ، وقالت عائشة رضى الله عنها : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن» (١).
وأما تأويل ما أخبر به الله تعالى عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها. وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة «الاستواء معلوم والكيف مجهول» وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهم من السلف «إنا لا نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه».
__________________
(١) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».