لما أظلمت الأرض وبعد عهدها بنور الوحي فكانوا كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «إنى خلقت عبادي حنفاء ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب» (١) فكان أهل العقل كلهم في مقته إلا بقايا متمسكون بالوحي. فلم يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان والصلبان والنيران والكواكب والشمس والقمر والحيرة والشك. أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به ، فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلمة سراجا منيرا ، وأنعم بها على أهل الأرض في عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، فأبصروا بنور الوحي ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه ، فكانوا كما قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (البقرة : ٢٥٧).
وقال تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم : ١).
وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (الشورى : ٥٢) وقال (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (الأنعام : ١٢٢) فمضى الرعيل الأول وضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ؛ وليس يلتبس بظلم الآراء ، وأوصوا من بعدهم ألا يفارقوا ذلك النور الذي اقتبسوه منهم ، فلما كان في أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة ، فبعدوا عن النور الذي كان عليه أوائل الأمة ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية ، بل كانوا للنصوص معظمين وبها مستدلين ؛ ولها
__________________
(١) أخرجه مسلم (٢٨٦٥) ، والإمام أحمد (٤ / ١٦٢).