وأما الفلاسفة : فإنهم جعلوا ذلك من لازم الخلقة فيه ومقتضيات النشأة الحيوانية. وقالوا ليس في الإمكان إلا ذلك. ولو فرض غير ذلك لكان غير هذا العالم ، فإن تركيب الحيوان الّذي يكون ويفسد يقتضي أن تعرض له الآلام كما يعرض له الجوع والعطش والضجر ونحوها. وقالوا رفع هذا بالكلية إنما يكون برفع أسبابه ، والخير الّذي في أسبابه أضعاف أضعاف الشر الحاصل بها ، فاحتمال الشر القليل الجزئي في جنب المصلحة العامة الكلية أولى من تعطيل الخير الكثير لما يستلزمه من المفسدة اليسيرة الجزئية. قالوا ومن تأمل أسباب الآلام وجد ما في ضمنها من الملذات والخيرات والمصالح أضعاف أضعاف ما في ضمنها من الشرور كالحر والبرد والمطر والثلج والريح وتناول الأغذية والفواكه وأنواع الأطعمة. وصنوف المناكح ، وأنواع الأعمال والحركات ، فإن الآلام إنما تتولد غالبها عن هذه الأمور مصالحها ولذتها وخيراتها أكثر من مفاسدها وشرورها وآلامها.
وهذه الطرق الثلاثة سلكها طوائف من المسلمين ، وفي كل طريق منها حق وباطل ، فإذا أخذت من طريق حقها ورميت باطلها كنت أسعد الناس بالحق ، وأصحاب المشيئة المحضة أصابوا في إثبات عموم المشيئة والقدرة ، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بمشيئته ، فخذ من قولهم هذا القدر وألق منه إبطال الأسباب والحكم والتعليل ومراعاة مصالح الخلق.
والقدرية أصابوا في إثبات ذلك وأخطئوا في مواضع ، أحدها : إخراج أفعال عباده عن ملكه وقدرته ومشيئته.
الثاني : تعطيلهم عود الحكمة والغاية المطلوبة إلى الفاعل ، وإنما أثبتوا أنواع حكمة تعود إلى المفعول لا إلى الفاعل ، والثالث : أنهم شبهوا الله بخلقه فيما يحسن منهم وما يقبح فقاسوه في أفعاله على خلقه ، واعتبروا حكمته بالحكمة التي لعباده ، فخذ من قولهم إنه حكيم لا يفعل إلا لمصلحة وحكمة ، وأنه لا يفعل الظلم مع قدرته عليه ، بل تنزه عنه لغناه وكماله ، وأنه لا يعاقب أحدا بغير ذنب ولا يعاقبه بما لا يفعله. فضلا عن أن يعاقبه بفعل هو فعله فيه أو فعل