السعادة العظيمة والنعيم المقيم. فما ينالهم من الآلام يجرى مجرى إيلام الأب الشفيق لولده الطفل ، بكى أو بط أو قطع سلعة يعقبه كمال عافية وانتفاعه بنفسه وحياته ، فهذا الإيلام محض الإحسان إليه وما يقدر من حصول النعيم واللذة في الجنة بدون هذه الآلام فهو نوع آخر غير النوع الحاصل بعد الآلام ، ولهذا كانت اللذة الحاصلة بالأكل والشرب بعد شدة الجوع والظمأ أضعاف اللذة الحاصلة بدون ذلك ، وكذلك لذة الوصل بعد الهجران والبعاد المؤلم والشوق الشديد أعظم من اللذة الحاصلة بدونه. ووجود الملزوم بدون لازمه محال. ولا ريب أن لذة آدم بعوده إلى الجنة بعد أن خرج منها إلى دار التعب أعظم من اللذة التي كانت حاصلة له أولا.
وأما غير المكلفين من الحيوانات فقد يقال إنه ما من حيوان إلا ويحصل له من اللذة والخير والنعيم ما هو أعظم مما يحصل له من الألم بأضعاف مضاعفة فإنه يلتذ بأكله وشربه ونومه وحركته وراحته وجماعه الأنثى وغير ذلك. فنعيمه ولذته أضعاف أضعاف ألمه ، وحينئذ فالأقسام أربعة : إما أن يعطل الجميع بترك خلق الحيوان لئلا يحصل له الألم ، أو يخلق على ونشأة لا يلحقه بها ألم ، أو على صفة لا ينال بها لذة ، أو على هذه الصفة والنشأة التى هو عليها.
فالقسم الأول : ممتنع لمنافاته للحكمة ، فإنه يستلزم تعطيل الكثير والنفع العظيم لما يستلزمه من مفسدة قليلة ، كتعطيل الأمطار والثلوج والرياح والحر والبرد لما يتضمنه من الآلام ولا ريب أن الحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك ، فترك الخير الكثير لأجل ما فيه من الشر القليل شر كثير.
وأما القسم الثاني : فكما أنه ممتنع في نفسه إذ من لوازم إنشائه في هذا العالم أن يكون عرضة للحر والبرد والجوع والعطش والكلال والتعب وغيرها. فإنه منشأ من هذا العالم الّذي مزج خيره بشره. والمنشأ خير منه كذلك ، فالحكمة تأبى إنشاءه لذلك في هذا العالم الّذي مزج رخاؤه بشدته. وبلاؤه بعافيته ،