غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له أو ذلك محض جعله في قلوبهم؟ قلت : لا ، بل هو محض منته وفعله وهو من أعظم الخير الّذي هو في يده ، فالخير كله في يديه ولا يقدر أحدنا أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.
فإن قلت : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال : وكان منعهم منه ظلما ولزمك القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه؟ قيل : لا يكون بمنعه سبحانه لهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك الغير عليه ؛ وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأما منع غيره ما ليس حقا محض فضله ومنته عليه لم يكن ظالما بمنعه.
فإن قلت : فإذا كان العطاء والبذل والتوفيق إحسانا (ورحمة) وفضلا ؛ فهلا كانت الغلبة له كما أن «رحمته تغلب غضبه؟» (١) قيل : المقصود من هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم. وهذا سؤال عن الحكمة التى أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ، وهلا ساوى بين العباد في الفضل ، وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على هذا؟ وقد تولى سبحانه الجواب عنه بقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد : ٢١) ، وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد : ٢٩) ، وليس في الحكمة اطلاع فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ؛ بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه وعقابه ؛
__________________
(١) أخرجه البخاري (٣١٩٤) ، ومسلم (٢٧٥١) عن أبى هريرة رضى الله عنه يرفعه بلفظ : لما خلق الله الخلق كتب في كتابه ، هو يكتب على نفسه فهو عنده فوق العرش :
(إن رحمتى تغلب غضبى). ، وفي رواية (إن رحمتى سبقت غضبى) وهذا لفظ مسلم.