ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الأولوية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص والإنابة العاصمة من ضدها. فقد بين أن إخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان ، لأن فعل السيئات التى توجب العذاب. فإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده ؛ وإلهامه البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة خلوّه من الإخلاص.
فإن قلت : هذا الترك إن كان أمرا وجوديا عاد السؤال ؛ وإن كان أمرا عدميا فكيف يعاقب على العدم؟ قلت : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه فهذا قد يقال إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم خلو عن أسباب الخير وهذا العدم ليس بكف للنفس ومنع لها عما تريده وتحبه بل هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها. والعقوبة على الأمر العدمي هى بفعل السيئات لا بالعقوبات التى تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل.
فلله سبحانه عقوبتان. إحداهما جعله خاطئا مذنبا لا يحس بألمها ومضرتها لموافقتها شهوته وإرادته ، وهى في الحقيقة من أعظم العقوبات ، والثانية العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات. وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ٤٤) ، فهذه العقوبة الأولى. ثم قال : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فهذه العقوبة الثانية.
واعط هذا الموضع حقه من التأمل ؛ وانظر كيف ترتبت هاتان العقوبتان إحداهما على الأخرى ، لكن العقوبة (الأولى) عقوبة موافقته لهواه وإرادته ، والثانية مخالفته لما يحبه ويتلذذ به. وتأمل عدل الرب تعالى في هذه وهذه ؛ وأنه سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها الأولى بها الّذي لا يليق بها غيره ، وهذا أمر لو لم تشهده القلوب وتعرفه لما جاز أن ينسب إلا إلى الله تعالى ، ولا يظن به غيره ، فإنه من ظن السوء بمن يتعالى ويتقدس عن كل سوء وعيب.
فإن قلت : هل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من