فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر : ١٩) ، قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (المائدة : ٤١) فعدم إرادته تطهيرهم وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه ، فالذى إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير ، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه ؛ فمنهم ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة وبعقوبته لهم به تارة ؛ وإليهم انتهت غايته ووقوعه ، فتأمل هذا الموضع كما ينبغى ، فإنه يحل عنك إشكالات حار فيها أكثر الناس ولم يهتدوا إلى الجمع بين الملك والحمد والعدل والحكمة.
* * *
المسلك الثالث : مسلك الرحمة فإنها هى المسئولية الشاملة العامة للموجودات كلها وبها قامت الموجودات ، فهي التي وسعت كل شيء والرب وسع كل شيء رحمة وعلما فوصلت رحمته إلى حيث وصل علمه ، فليس موجود سوى الله تعالى إلا وقد وسعته رحمته وشملته وناله منها حظ ونصيب. ولكن المؤمنون اكتسبوا أسبابا استوجبوا بها تكميل الرحمة ودوامها ، والكفار اكتسبوا أسبابا استوجبوا بها صرف الرحمة إلى غيرهم ، فأسباب الرحمة متصلة دائمة لا انقطاع لها لأنها من صفة الرحمة ، والأسباب التي عارضتها مضمحلة زائلة لأنها عارضة على أسباب الرحمة طارئة عليها ، وإذا كان كل مخلوق قد انتهت إليه الرحمة ووسعته فلا بد أن يظهر أثرها فيه آخرا كما ظهر أثرها فيه أولا. فإن أثر الرحمة ظهر فيه أول النشأة ثم اكتسب ما يقتضي آثار الغضب ، فإذا ترتب على الغضب أثره عادت الرحمة فاقتضت أثرها آخرها كما اقتضته أولا لزوال المانع وحصول المقتضي في الموضعين.
ومما يوضح هذا المعنى أن الجنة مقتضى رحمته ومغفرته ، والنار من عذابه ، وهو مخلوق منفصل عنه ، ولهذا قال تعالى (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (الحجر : ٣٩ ، ١٨٧) ، وقال : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة : ٩٨) ، قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف : ١٨٧).