فالنعم موجب أسمائه وصفاته ، وأما العذاب فإنه من مخلوقاته المقصودة لغيرها بالقصد الثاني ، فهو سبحانه إذا ذكر الرحمة والإحسان والعفو نسبه إلى ذاته ، وأخبر أنه من صفاته. وإذا ذكر العقاب نسبه إلى أفعاله ولم يتصف به. فرحمته من لوازم ذاته ، وليس غضبه وعقابه من لوازم ذاته ، فهو سبحانه لا يكون إلا رحيما ، كما أنه لا يكون إلا حيا ، عليما قديرا سميعا ؛ وأما كونه لا يكون إلا غضبانا معذبا ، فليس ذلك من كماله المقدس ؛ ولا هو مما أثنى به على نفسه وتمدح به.
يوضح هذا المعنى أنه كتب على نفسه الرحمة ، ولم يكتب عليها الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته ، ولم يسبقها الغضب ولا غلبها ، ووسعت رحمته كل شيء ، ولم يسع غضبه وعقابه كل شيء ، وخلق الخلق ليرحمهم لا ليعاقبهم ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والفضل أحب إليه من العدل ، والرحمة آثر عنده من العقوبة ، لهذا لا يخلد في النار من في قلبه أدني مثقال ذرة من خير ، وجعل جانب الفضل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وجانب العدل : السيئة فيه بمثلها وهي معرضة للزوال بأيسر شيء ، وكل هذا ينفي أن يخلق خلقا لمجرد عذابه السرمدي الذي لا انتهاء له ولا انقضاء ؛ لا لحكمة مطلوبة إلا لمجرد التعذيب والألم الزائد على الحد فما قدر الله حق قدره من نسب إليه ذلك ، بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم ويحسن إليهم وينعم عليهم ، فاكتسبوا ما أغضبه وأسخطه فأصابهم من عذابه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا ثم اضمحل سبب العقوبة وزال وعاد مقتضى الرحمة. فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين وحكمة أحكم الحاكمين.
ومما يبين هذا أن الجنة لا يدخلها من لم يعمل خيرا قط ؛ ويدخلها من ينشئه الله تعالى فيها ؛ ويدخلها من دخل النار أولا ويدخلها الأبناء بعمل الآباء ، وأما النار فذلك كله منتف فيها ، ولا يدخلها من لم يعمل شرا قط ، ولا يثنى الله تعالى فيها خلقا يعذبهم من غير جرم ، ولا يدخلها من يدخل الجنة أولا ولا يدخلها الذرية بكفر الآباء وعملهم ، وهذا يدل على أنها خلقت لمصلحة من