دخلها الذيب (١) فضلاته وأوساخه وأدرانه ، وتطهره من خبثة ونجاسته ؛ كالكير الذي يخرج خبث الجواهر المنتفع بها ، ولمصلحة من يدخلها ليردعه ذكرها والخبر عنها عن ظلمه وغيه ، فليست الداران عند الله سواء في الأسباب والغايات والحكم والمصالح.
يوضح ذلك أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا لحكمة ، ولا يضع عذابه إلا في المحل الذي يليق به ، كما اقتضى شرعه العقوبات الدنيوية بالحدود التى أمر بإقامتها لما فيها من المصالح والحكم في حق صاحبها وغيره ، وكذلك ما يقدره من المصائب والآلام ؛ فيها من الحكم ما لا يحصيه إلا الله ، من تزكية النفوس وتطهيرها ، والردع والزجر ، وتعريف قدر العاقبة ، وامتحان الخلق ، ليظهر من يعبده على السراء والضراء ممن يعبده على حرف إلى أضعاف ذلك من الحكم وكيف يخلو أعظم العقوبات عن حكمة ومصلحة ورحمة ، إن مصدرها عن تقدير أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. ولهذا يدخل النار من أهل التوحيد من فيه خبث وشر حتى يتطهر فيها ويطيب ، ومن كان فيه دون ذلك حبس على قنطرة بين الجنة والنار ؛ حتى إذا هذب ونقى أذن له بالدخول ، ومعلوم أن النفوس الشريرة الظالمة المظلمة الأثيمة لا تصلح لتلك الدار التي هي دار الطيبين. ولو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه فلا تصلح لدار السلام التى سلمت من كل عيب وآفة ، فاقتضت الحكمة تعذيب هذه النفوس عذابا يطهر نفوسهم من ذلك الشر والخبث ؛ ويكون مصلحة لهم ، ورحمة بهم ذلك العذاب وهذا معقول في الحكمة. أما خلق النفوس لمجرد العذاب السرمدي لا لحكمة ولا لمصلحة فتأباه حكمة أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
__________________
(١) كذا بالأصل ولعل الألف زائدة فتكون الجملة : لذيب فضلاته وأوساخه ... الخ ، ذاب : الشحم والثلج ونحوها ـ ذوبا ، وذوبانا : سال عن جمود ، وأذاب الشيء جعله يذوب (الوجيز) بتصرف.