الوجه الثاني : إن هذا إنما يمكن دعواه إذا ثبت أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، ثم استعملوا تلك الألفاظ في تلك المعاني ، ثم بعد ذلك اجتمعوا وتواطئوا على أن يستعملوا تلك الألفاظ بعينها في معان أخر غير المعاني الأول ، لعلاقة بينها وبينها ، وقالوا هذه الألفاظ حقيقة في تلك المعاني مجاز في هذه وهذه ، ولا نعرف أحدا من العقلاء قاله قبل أبي هاشم الجبائي ، فإنه زعم أن اللغات اصطلاحية ، وأن هل اللغة اصطلحوا على ذلك ، وهذا مجاهرة بالكذب ، وقول بلا علم ، والذي يعرفه الناس استعمال هذه الألفاظ في معانيها المفهومة منها.
الوجه الثالث : إن قولكم : الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضوعه ، فلزم منه انتفاء كونه حقيقة قبل الاستعمال وليس بمجاز ، فتكون الألفاظ قبل استعمالها لا حقيقة ولا مجاز ، هذا وإن استلزموه فإنه يستلزم أصلا فاسدا ، ومستلزم لأمر فاسد ، أما الأصل الفاسد فهو أن هاهنا وضعا سابقا على الاستعمال ثم طرد عليه الاستعمال فصار باعتباره حقيقة ومجازا ؛ وهذا مما لا سبيل إلى العلم به كما تقدم ، ولا يعرف تجرد هذه الألفاظ عن الاستعمال بل تجردها عن الاستعمال محال وهو كتجرد الحركة عن المتحرك. نعم إنما تتجرد في الذهن وهي حينئذ ليست ألفاظا وإنما هي تقدر ألفاظا لا حكم لها ؛ وثبوتها في الرسم مسبوق بالنطق بها ، فإن الخط يستلزم اللفظ من غير عكس.
وأما استلزامه الأمر الفاسد فإنه إذا تجرد الوضع عن استعمال جاز أن يوضع للمعنى الثاني من غير أن يستعمل في معناه الأول ، وحينئذ فيكون مجازا لا حقيقة له ، فإذا الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضعه وقد نقل عنه إلى مجازه ، وهل هذا إلا نوع من الكهانة الباطلة ؛ اللهم إلا أن يأتي وحي بذلك فيجب المصير إليه.
الوجه الرابع : إن هذا يستلزم تعطيل الألفاظ عن دلالتها على المعاني وذلك ممتنع ؛ لأن الدليل يستلزم مدلوله من غير عكس.
(فإن قيل) لا يلزم من عدم الاستعمال عدم الدلالة فإنهما غير متلازمين