الذهن من الآخر ، وهذا الذي نعنى بالحقيقة. مثاله أن القائل إذا قال رأيت اليوم أسدا ، تبادر إلى ذهن السامع الحيوان المخصوص ، دون الرجل الشجاع هذا غاية ما تقدرون عليه من الفرق وهو أقوى ما عندكم ، ونحن لا ننكره ولكن نقول اللفظ الواحد تختلف دلالته عند الإطلاق والتقييد ، ويكون حقيقة في المطلق والمقيد. مثاله لفظ العمل ، إنه عند الإطلاق إنما يفهم منه عمل الجوارح ، فإذا قيد بعمل القلب كانت دلالته عليه أيضا حقيقة. اختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد. ولم يخرج بذلك عن كونه حقيقة. وكذلك لفظ الإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الأعمال. كقوله صلىاللهعليهوسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان» (١) فإذا قرن بالأعمال كانت دلالته على التصديق بالقلب. وكقوله : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (البقرة : ٨٢ ، ٢٧٧) فاختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد وهو حقيقة في الموضعين.
وكذلك لفظ الفقير والمسكين يدخل فيه الآخر عند الإطلاق. فإذا جمع بينهما لم يدخل مسمى أحدهما في مسمى الآخر ، وكذلك لفظ التقوى والقول السديد إذا أطلق لفظ التقوى تناول تقوى القلب والجوارح واللسان فإذا جمع بينهما تقيدت دلالته كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب : ٧٠) وكذلك لفظ التقوى عند الإطلاق يدخل فيه الصبر فإذا قرن بالصبر لم يدخل فيه كقوله تعالى : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) (آل عمران : ١٢٥) وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران : ١٨٦) ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر.
وأخص من هذا أن يكون اللفظ لا يستعمل إلا مقيدا كالرأس والجوارح واليد وغير ذلك فإن العرب لم تستعمل هذه الألفاظ مطلقة بل لا تنطق بها إلا مقيدة كرأس الإنسان ورأس الطائر ورأس الدابة ورأس الماء ورأس الأمر ورأس المال ورأس القوم. فها هنا المضاف والمضاف إليه جميعا حقيقة وهما موضوعان.
__________________
(١) أخرجه البخارى (٩) ، ومسلم (الإيمان / ٥٨) وغيرهما.