لكل مقيد مجازا ، وإن كانت دلالتها عند التقييد لم توجب لهما مفارقة الحقيقة ، فكل مقيد حقيقة. ألا ترى أنك تقول عندي رجل فيكون له دلالة ، فإذا قلت : الرجل عندي تغيرت دلالته وانتقلت من التنكير إلى التعريف ، فإذا قلت عندي رجل عالم تقيد منع دلالته على غيره ، فإذا قلت عندي رجلان كان له دلالة أخرى فإذا قلت رجال تغيرت الدلالة ولم يخرج بذلك عن حقيقته وموضوعه ، بل اختلفت دلالته بحسب القرائن التي تكون في أوله تارة وفي آخره تارة ، وهي متصلة به وتكون منفصلة عنه تارة ، إما لفظية وإما عرفية وإما عقلية ، فهذا أمر معلوم عند الناس في مخاطبات بعضهم مع بعض ، وهو من ضرورة الفهم والتفهيم لا يختص بلغة دون لغة.
فالفرق بين المعاني المطلقة والمقيدة أمر ضروري ، والحاجة في التمييز بينهما في العبارة من لوازم النطق ، فمن ادعى أن بعضها هو الأصل ، وأن اللفظ وضع له أولا ، ثم نقل عنه بعد ذلك إلى المعاني الأخر فهو مكابر ، إذ تصور تلك المعانى والتعبير عنها أمر لازم للناطق ونطقه ، بل نقول إن لزوم المقيد له وحاجته إلى التعبير عنه وإفهامه فوق حاجته إلى المطلق ، فإن القصد من الخطاب قيام مصالح النوع الإنساني بالفهم والتفهيم والمطلق صورة ذهنية لا وجود لها في الخارج ، وكذلك اللفظ المطلق المجرد لا يفيد فائدة وإنما محل الإفادة والاستفادة هو طلب المعاني المقيدة والألفاظ المقيدة ، فهي التي تشتد الحاجة إلى طلبها والخبر عنها ، فهؤلاء عكسوا الأمر فجعلوا ما لا غنى للناطق عنه مجازا وما لا ، يحتاج إليه ، ولا تشتد حاجته إلى فهمه وتفهيمه حقيقة.
(والمقصود) إنه إن كان المجاز حقا ثابتا فاللغة كلها مجاز ، فإن الألفاظ لا تستعمل إلا مقيدة تخالف دلالتها عند الإطلاق ، وإن كانت الحقيقة موجودة فإن اللغة كلها حقيقة ما دلت على المراد بتركيبها. وهذا شأن جميع الألفاظ. يوضحه :
الوجه التاسع والثلاثون : إن هؤلاء أوتوا من تقدير في الذهن لا حقيقة له ،