قيل : هذا مكابرة ظاهرة ، فإنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا محبة بعض الأعيان وبغض بعضها ، ويعلم كل عاقل صحة قول القائل هذا الشيء محبوب وهذا مكروه ، وذلك حقيقة لا مجاز. فأي عقل وشرع ولغة يمنع من اتصاف الأعيان أنفسها بكونها مباحة أو محرمة كما توصف بكونها محبوبة أو مكروهة.
وقول القائل إن الأعيان لا تدخل تحت الطلب يقال له : هذا من وهمك حيث ظننت أن تحريمها وتحليلها طلب لإيجادها وعدمها فإن هذا لا يفهمه أحد ولا يخطر ببال السمع أصلا. وإنما يفهم كونها حلالا أو حراما الإذن في تناوله والمنع منه هذا حقيقة اللفظ وموضوعه وعرف استعماله والتركيب مرشد إلى فهم المعنى ، ولم يوضع لفظ التحريم والتحليل لإحداث الأعيان ولا إعدامها ولا استعمل في ذلك ولا فهمه أحد أصلا وإنما حقيقته ما يفهم المخاطب منه فله وضع. وفيه استعمل. ومنه فهم. فإذا سمع المخاطب : هذه المرأة حرام عليك. لم يشك في المعنى ولم يتوقف فهمه له على تقدير محذوف وإضمار مضاف. ولم يخطر بباله أن هذا الكلام مجاز لا حقيقة.
ولما سمع المؤمنون قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى آخرها لم يقع في قلوبهم أن هذا مجاز ولا خطر ببالهم غير حقيقته ومفهومه. وهذا كله إنما نشأ من قبل المتولجين المتكلفين ، ألا ترى أن الذين نزل القرآن بلغتهم لم يختلفوا في ذلك ولم يتكلفوا هذه التقادير. بل كانوا أفقه من ذلك وأصح أفهاما وأعلى طلبا. وإنما لهج المتأخرون بذلك لما نزلت مرتبتهم وتقاصرت أفهامهم وعلومهم من علوم أولئك.
وهل سمع عربي قط ولو من أجلاف العرب قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) ـ (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً) ـ (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (النساء : ٢٣ ، المائدة : ٩٦ ، النساء : ٢٤) ونظائره فأصابهم ما أصاب هؤلاء من البحث عن كون ذلك حقيقة أو مجازا أو مجملا لا يدرى المراد منه وهل توقف في فهم المراد على إضمار وحذف ثم فكر وقدر في تعيينه؟ لما قال سبحانه