(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) فهم السامع المراد من غير أن يخطر بباله حذف ولا إضمار ، وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (المائدة : ٢٦) فإذا ظهر مراد المتكلم وفهم السامع فأي حاجة إلى دعوى محذوف يحكم على المتكلم أنه أراده ، وأنه لا يصح الكلام بدونه ، يوضحه.
الوجه الثالث والعشرون : إن الأعيان توصف بكونها طيبة وخبيثة ونافعة وضارة فكذلك توصف بكونها حلالا وحراما ، إذ الحل والحرمة تبع طيبها وخبيثها وكونها ضارة ونافعة كما قال تعالى : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (الأعراف : ١٥٧) ، ولا بد أن يكون الحلال طيبا في نفسه ، والحرام خبيثا في نفسه ، فوصفه بكونه حلالا أو حراما جار مجرى وصفه بكونه طيبا أو خبيثا ، ودلالة تحريم العين وتحليلها على الفعل المتعلق بها من باب دلالة الالتزام.
وقد علمت أن ما يدل بالالتزام لا يقال فيه أنه محذوف مقدر فالقائل لغيره اصعد السطح قد دله بالالتزام على الصعود في السلم ولا يقال أن في الكلام مضمرا محذوفا ، وهو بدون ذكره مجازا ولو كان كذلك لكان كل كلام له لازم لم يذكر معه لازمة مجازا وهذا لا يقوله من لا يدري ما يقول ، فإن الرجل إذا قال (تعالى) فله لازم وهو قطع المسافات ، وإذا قال (كل) فله لازم وهو تناول المأكول ، وكذلك كل خطاب في الدنيا له لازم يدل عليه باللزوم ، فافتحوا باب الحذف والإضمار في ذلك كله وقولوا إن الكلام بدون ذكره مجاز ، وإلا فما الفرق بين ما ادعيتم إضماره وبين ما ذكرناه. فأي فرق بين اصعد السطح وبين اطبخ اللحم ، واخبز العجين ، وابن الحائط ، فهذا له لوازم وهذا له لوازم ، والمتكلم لا يجب عليه ذكر اللزوم ، بل ذكرها عي وتطويل.
والوجه الرابع والعشرون : قوله : وأما قول الله عزوجل (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فليس هو من باب المجاز بل هو حقيقة.