فيقال له : ما أسرع ما هدمت جميع ما بنيته ونقضت كل ما أصّلته ، فإنك قدمت في أول الباب أن الفعل يقتضي جميع أفراد المصدر ، وهذا محال ، فالأفعال عامتها مجاز ، وقدمت أن خلق السموات والأرض مجاز وعلم الله مجاز ، فما بال (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) وحده حقيقة من بين سائر الأفعال ، ومن العجب أن يكون خلق الله السموات والأرض وعلم الله عندك مجازا وهو أظهر للأمم من كل ظاهر (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤) حقيقة وفيه من أظهر الخلاف والخفاء ما لا يخفى ونحن لا نشك أن الجميع حقيقة ومن قال أن ذلك أو بعضه مجاز فهو ضال ، ولكن القائلون بأن كلم الله موسى مجاز ، يقولون أن خلق الله وعلم الله حقيقة وهم الجهمية والكلابية ، وأما القائلون بخلق القرآن فلهم قولان أكثرهم يقول أنه مجاز. وبعضهم يقول أنه حقيقة ؛ (وكلم الله ويكلم حقيقة في خلق حروف وأصوات يكون متكلما مكلما ، والمتكلم عندهم حقيقة) من فعل الكلام عندهم هي الحروف والأصوات ، وأصابوا في ذلك لكن أخطئوا في اعتقادهم أن المتكلم من فعل الكلام (في غيره ولم يقم به) ، فالكلام عندهم مخلوق ، والرب لم يقم به عندهم كلام ولا أمر ولا نهي ، وهؤلاء الذين اتفق السلف وأئمة الإسلام على تكفيرهم.
الوجه الخامس والعشرون : أنهم إذا قالوا المتكلم من فعل الكلام في غيره فصار بذلك متكلما دون المحل الذي قام به الكلام ، فقد قلبوا أوضاع اللغات ، وخرجوا عن المعقول وعن لغات الأمم قاطبة ، فإن الله تعالى لو اتصف بما يحدثه في غيره من الأعراض والصفات لكان أسود بالسواد الذي يخلقه في المحل ، وكذلك إذا خلق في محل بياضا أو حمرة أو طولا أو قصرا أو حركة كان المحل الذي قامت به هذه الصفات والأعراض هو الموصوف بها حقيقة لا الخالق لها ، فالصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك لا إلى غيره ، واشتق له منها اسم لم يشتق لغيره ، وأخطأ القائلون بخلق القرآن في هذه المسائل الأربع وأخلوا المحل عن حكم الصفة وأعادوه إلى غير من قامت به ، واشتقوا الاسم لمن لم تقم به دون من قامت به فقلبوا الحقائق.
* * *