ولهذا منع عقلاء الفلاسفة حمل مثل هذا اللفظ على مجازه ، وقالوا هذا يأباه التقسيم والترديد والاطراد.
(الخامس) إنه لو صرح بهذا المحذوف المقدر لم يحسن وكان كلاما ركيكا.
فادعاء صديق ما يكون النطق به مشتركا باطل ، فإنه لو قال : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ملك ربك أو يأتى أمر ربك أو يأتي بعض آيات ربك كان مستهجنا.
(السادس) إن اطراد نسبة المجيء والإتيان إليه سبحانه دليل الحقيقة ، وقد صرحتم بأن من علامات الحقيقة الاطراد ، فكيف كان هذا المطرد مجازا.
(السابع) إنه لو كان المجيء والإتيان مستحيلا عليه لكان كالأكل الشرب والنوم والغفلة ، وهكذا هو عندكم سواء ، فمتى عهدتم إطلاق الأكل والشرب ، والنوم والغفلة عليه ونسبتها إليه نسبة مجازية ، وهى متعلقة بغيره؟ وهل في ذلك شيء من الكمال البتة؟ فإن قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) وأتى ويأتي عندكم في الاستحالة ، مثل نام وأكل وشرب ؛ والله سبحانه لا يطلق على نفسه هذه الأفعال ولا رسوله صلىاللهعليهوسلم لا بقرينة مطلقة فضلا عن تطرد نسبتها إليه ، وقد اطرد نسبة المجيء والإتيان ، والنزول (والاستواء) إليه مطلقا من غير قرينة تدل علي أن الذي نسب إليه ذلك غيره من مخلوقاته ، فكيف تسوغ دعوى المجاز فيه.
(الثامن) إن المجاز لو كان ثابتا فإنما يصار إليه عند تعذر الحمل على الحقيقة إذ هي الأصل ؛ فما الذي أحال حمل ذلك علي حقيقته من عقل أو نقل أو اتفاق من اتفاقهم حجة؟ فأما النقل والاتفاق فهو من جانب الحقيقة بلا ريب ، وأما العقل فإنكم تزعمون أنكم أولى به منهم ، وهم قد بطلوا جميع عقلياتكم التي لأجلها ادعيتم أن نسبة المجيء والإتيان والنزول والاستواء إلى الله مجاز من أكثر من ثلاثمائة وجه ، وقد ذكرناها فيما تقدم فسلم لهم النقل واتفاق السلف ، فكيف والعقل الصريح من جانبهم كما تقدم تقريره ، فإن من لا يفعل شيئا ولا يتمكن من فعل يقوم به بمنزلة الجماد.