عين هذه المخلوقات ، ولا صفة ولا جزء منها ، فإن الخالق غير المخلوق ، وليس بداخل فيها محصور بل هي صريحة في أنه مباين لها وأنه ليس حالا فيها ولا محلا لها ، فهي هادية للقلوب عاصمة لها أن يفهم من قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ). أن الله سبحانه عين المخلوقات أو حال فيها أو محل لها.
الوجه الرابع : إنه ليس ظاهر اللفظ ولا حقيقته أنه سبحانه مختلط بالمخلوقات ممتزج بها ، ولا تدل لفظة «مع» على هذا بوجه من الوجوه فضلا أن يكون هو حقيقة اللفظ وموضوعه ، فإن «مع» في كلامهم لصحبته اللائقة وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها ، فكون نفس الإنسان معه لون ، وكون علمه وقدرته وقوته معه لون ، وكون زوجته معه لون ، وكون أميره ورئيسه معه لون وكون ما له معه لون. فالمعية ثابتة في هذا كله مع تنوعها واختلافها ، فيصح أن يقال : زوجته معه وبينهما شقة بعيدة ، وكذلك يقال مع فلان دار كذا وضيعته كذا ، فتأمل نصوص المعية في القرآن كقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (الفتح : ٢٩) وقوله : (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) (الحديد : ١٤) وقوله : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (التوبة : ٨٣) وقوله : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (التوبة : ١١٩ ، البقرة : ٤٣ ، البقرة : ٢٤٩ ، التحريم : ٨ ، آل عمران : ٥٣) (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (النساء : ١٠٢ ، ١٠٣ ، المائدة : ٨٤) ، وأضعاف ذلك ، هل يقتضي موضع واحد منها مخالطة في الذوات التصاقا وامتزاجا ، فكيف تكون حقيقة المعية في حق الرب تعالى ذلك حتى يدعي أنها مجاز لا حقيقة ، فليس في ذلك ما يدل على أن ذاته تعالى فيهم ولا ملاصقة لهم ، ولا مخالطة ولا مجاوزة بوجه من الوجوه ، وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور. وذا الاقتران في كل موضع بحسبه يلزمه لوازم بحسب متعلقة.
فإن قيل : الله مع خلقه بطريق العموم ، كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم ، وإذا كان ذلك خاصا كقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (الحديد : ٤) كان من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة