قالوا : وصفه بكونه ليس في العالم ولا خارجا عنه يستلزم التعطيل ، والحكم بعدمه والتجسيم خير من التعطيل ، ونفي حقيقة الرب لو كان لازما ، كيف ولزومه من جانبكم أقوى ، فأنكم تصفونه بالصفات التي هي أعراض لا تقوم إلا بالأجسام ، وقد ألزمكم النفاة التجسيم بإثباتها فما كان جوابكم لهم فهو بعينه جوابنا لكم.
وإن قالوا إثبات دخوله في العالم يقتضي مجاورته ومخالطته لما ينزه عنه ، قالوا لهم : ونفي دخوله في العالم وخروجه عنه يقتضي امتناع وجوده وهو انقص من مجاورته للعالم ، فإن كان نقصا فالحكم عليه بما يمنع وجوده أدخل في النقص ، وإن لم يكن ذلك النفي نقصا ولا مستلزما للنفس لم يكن في الإثبات نقص.
فإن قلتم دخوله وخروجه يقتضي انحصاره في الأمكنة ، قال سلفكم بل يقتضي عدم انحصاره ، فإنا لم نخصه بمكان دون مكان ، ولو اقتضى حصره لكان ذلك أقرب إلى المعقول من الحكم عليه بما يقتضي امتناع وجوده.
فظهر أنه لا يمكن خلف الجهمية أن يرد على سلفهم البتة إلا أن يتركوا تعطيلهم ويتحيزوا إلى أهل الإثبات ، فإذا قال هؤلاء : حقيقة هذه الألفاظ تقتضي المجاورة (والمخالطة) ونحن نقول بذلك لم يمكنهم إبطال قولهم ، وأهل الإثبات براء من الفريقين. هذا إن كان ظاهر القرآن يدل على المخالطة والمجاورة ، وإن لم يدل على ذلك ولم يكن حقيقة فيه لم يكن خارجا عن حقيقته.
الوجه الثاني : إن الله سبحانه قد بين في القرآن غاية البيان أنه فوق سماواته وأنه مستو على عرشه ، وأنه بائن عن خلقه ، وأن الملائكة تعرج إليه ، وتنزل من عنده ، وأنه رفع المسيح إليه ، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب ، إلى سائر ما دلت عليه النصوص من مباينته لخلقه وعلوه على عرشه ، هذه نصوص محكمة فيجب رد المتشابه إليها ، فتمسكتم بالمتشابه ورد المحكم متشابها وجعلتم الكل مجازا.
الوجه الثالث : إن الله تعالى قد بين في غير موضع أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ، وأن له ملك السموات والأرض وما بينهما ، وأن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ، وأن كرسيه وسع السموات الأرض ، وأنه يمسك السموات والأرض ، وهذه نصوص صريحة في أن الرب تعالى ليس هو