وخاطب موسى من الشجرة ، والآدمي أكمل من الشجرة ، وبعض متأخريهم صرح بأن الله خلق تلك المعاني في قلب الرسول ، وخلق العبارة الدالة عليها في لسانه ، فعاد القرآن إلى عبارة مخلوقة دالة على معنى مخلوق في قلب الرسول.
ويعجب هذا القائل من نصب الخلاف بينهم وبين المعتزلة وقال : ما نثبته نحن من المعنى القائم بالنفس فهو من جنس العلم والإرادة ، والمعتزلة لا تنازعنا في ذلك ، غاية ما في الباب إنا نحن نسميه كلاما وهم يسمونه علما وإرادة. وأما هذا النظم العربي الذي هو حروف وكلمات ، وسور وآيات ، فنحن وهم متفقون على أنه مخلوق ، لكن هم يسمونه قرآنا ، ونحن نقول هو عبارة عن القرآن أو حكاية عنه.
فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف علي تكفيرهم ، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل فالمعتزلة قالوا : هذا الكلام العربي وهو القرآن حقيقة لا عبارة عنه ، وهو كلام الله ، وإنه غير مخلوق.
ومن هنا استخف كثير من أتباعهم بالمصحف وجوزوا دوسه بالأرجل ، لأنه بزعمهم ليس فيه إلا الجلد والورق والزاج والعفص ، والحرمة التي تثبت له دون الحرمة التي تثبت لديار ليلى وجدرانها فإن تلك الديار حلت فيها ليلى ونزلت بها ، وهذا الحد والورق إنما حل فيه المداد والأشكال المصورة الدالة علي عبارة كلام الله المخلوقة.
قال أبو الوفاء بن عقيل في خطبة كتابه في القرآن : أما بعد ، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها ، وقواعد الدين قد انحط شعارها ، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها ، وكتاب الله عزوجل بين العوام غرض ينتضل ، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام يبتذل ، وتضرب آياته بآياته جدالا وخصاما ، تنتهك حرمته لغوا وأثاما ، قد هون في نفوس الجهال بأنواع المحال ، حين قيل ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث المخلوق ، وإن سلطت عليه النار احترق ، وأشكال في قرطاس قد لفقت. إزراء بحرمته ومهانة بقيمته ،