وتطفيفا في حقوقه ، وجحودا لفضيلته حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان ذلك متظلما ، ومن هذه البدعة متوجعا متألما. أترى ليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤١ ، ٤٢) وقال (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٨ ، ٧٩) وقال : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (الطور : ١ ـ ٣) أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسه المحدثون. وإذا ظهرت الحروف المكتوبة صار (لا يمسه إلا المطهرون) أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب الشريعة تنزيلا وتجليلا «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» (١) أليس الله تعالى يقول في كتابه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) (مريم : ١٢) وقال في حق موسى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ) (الأعراف : ١٤٥) أفترى من القوة تهوينها عند المكلفين ، والازدراء بها عند المتخلفين. يزخرفون للعوام عبارة يتوقون بها إنكارهم ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم ، ويقولون تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ، وكتابة ومكتوب. هذه الكتابة معلومة فأين المكتوب؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو؟ يقولون القرآن عندنا قديم قائم بذاته سبحانه ، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم ، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة ، فقد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة يقدمون رجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون ، ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون. إن قلنا لهم ما مذهبكم في القرآن؟ قالوا قديم غير مخلوق ، وإن قلنا فم القرآن أليس هو السور المسورة والآيات المسطرة في الصحف المطهرة ، أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين ، أليس هو المسموع من ألسنة التالين؟ قالوا إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته ، وأما القرآن فهو قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة أخرى.
__________________
(١) تقدم تخريجه.