ألفاظه ، وأحالهم في فهم معانيه على ما يذكره هؤلاء ، لم يكن قد شهد له بالبلاغ ، وهذا هو حقيقة قولهم حتى أن منهم من يصرح به ويقول : إن المصلحة كانت في كتمان معاني هذه الألفاظ ، وعدم تبليغها للأمة ، إما لمصلحة الجمهور ، ولكونهم لا يفهمون المعاني إلا في قوالب الحسيات وضرب الأمثال ، وإما لينال الكادحون ثواب كدحهم في استنباط معانيها واستخراج تأويلاتها من وحشي اللغات وغرائب الأشعار ، ويغوصون بأفكارهم الدقيقة على صرفها عن حقائقها ما أمكنهم.
(المقام الثالث : بيان وجوب تلقيها بالقبول) (١)
وأما أهل العلم والإيمان فيشهدون له بما يشهد الله به وشهدت به ملائكته وخيار القرون أنه بلغ البلاغ المبين القاطع للعذر المقيم للحجة ، الموجب للعلم واليقين لفظا ومعنى والجزم بتبليغه معانى القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ ، بل أعظم من ذلك ، لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواص أمته ، وأما المعاني التي بلغها فإنه يشترك في العلم بها العامة والخاصة.
ولما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجمع لأحد مثله قبله ولا بعده ، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم ، قال لهم : أنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، ورفع إصبعه إلى السماء رافعا لها من هو فوقها وفوق كل شيء قائلا «اللهم اشهد» (٢) فكأنا شهدنا تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله ذلك اللسان الكريم وهو يقول «اللهم اشهد» ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، وكشف لهم طرائق الهدى : وأوضح لهم معالم الدين ، وتركهم على المحجة
__________________
(١) لم يشر المصنف رحمهالله في «المختصر» إلى مكان المقام الثالث كما قسمه الإمام ابن القيم في أول الباب وكما سيأتي بعد ذلك المقام الرابع ، والمقام الثالث وهو : بيان وجوب تلقيها بالقبول يعني ـ أخبار الآحاد ـ فرأينا وضعه هنا لمناسبته لما سيذكر والله أعلم.
(٢) تقدم تخريجه وهو في «الصحيحين».