وعادتهم في خطابهم ، فلا بد أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة من غيرهم ، لأن فهم الكلام موقوف على معرفة اللغة ، وهاهنا خمس درجات.
(الدرجة الأولى) أن يباشر عربا غيرهم فيسمع لغتهم ويعرف مقاصدهم ويقيس معاني ألفاظ القرآن على معاني تلك الألفاظ ، وهذا إنما يستقيم إذا سلم اللفظ في الموضعين من احتمال المعاني المختلفة ، وأن يكون المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من المتكلم الآخر ، وغايته فيه القياس ، وهو موقوف على اتحاد المعنيين في الكلامين.
ومن المعلوم أن جنس ما دل عليه القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس وإن كان بينهما قدر مشترك ، فإن الرسول جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها ، وأمرهم بأفعال لم يكونوا يعرفونها ، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين معناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك ، ولم تكن مساوية بها ، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه ، ولهذا يسمي كثير من الناس هذه الألفاظ حقائق عقلية شرعية باعتبار تلك الخصائص داخلة في مسماها ، وهي لا تعلم إلا بالشرع ، وبعضهم يجعلها مجازات لغوية لأجل تلك العلاقة التي بين تلك الخصائص وبين المعاني اللغوية ، وبعضهم يجعلها متواطئة باعتبار القدر المشرك بينهما ، وأن كان الشرع خصصها ببعض محالها ، كما يقع التخصيص لغة وعرفا فالتخصيص يكون لغويا تارة وعرفيا تارة ، فهي لم تنقل عن معانيها اللغوية بالكلية ، ولم تبق على ما هي عليه من أصل الوضع ، بل خصت تخصيصا شرعيا ببعض مواردها ، كما خص بعض الألفاظ تخصيصا عرفيا ببعض موارده ، ولا يسمي مثل هذا نقلا ولا اشتراكا ولا مجازا ، وإن سمي بذلك ، فليس الشأن في التسمية وبعود النزاع لفظيا.
(الدرجة الثانية) أن يسمع اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظما ونثرا وكل ما يعتري نقل الحديث من الآفات فهو هنا أكثر ، وهذا أمر معلوم لمن كان خبيرا بالواقع فيرد على نقل اللغة ومعرفة مراد المتكلم من ألفاظها أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعرفة مراد الرسول به ، لأن الهمم والدواعي توفرت على نقل كلام