برهان ذلك أن حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين ، أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله تعالى ظالم ، سواء كان المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا لم يعلم باطن أمرهم ، ونحن مأمورون يقينا بأمر الله تعالى لنا أن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل ، وأن نبيح هذا الفرج الحرام المشهود فيه بالكذب ، وأن نبيح هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل ، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئا من ذلك ، وقضى تعالى بأننا إن لم نحكم بذلك فساق عصاة له ، ظلمة متوعدون بالنار على ذلك ، وما أمرنا أن نحكم في الدين بخبر وضعفه فاسق أو وهم فيه واهم فهذا فرق في غاية البيان.
(وفرق ثالث) وهو أن الله تعالى فرض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذا ، وأمرنا الله تعالى بكذا ، لأنه تعالى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (النساء : ٥٩ ، الحشر : ٧) ففرض علينا أن نقول : نهانا الله ورسوله عن كذا وكذا ، وأمرنا بكذا ، ولم يأمرنا قط أن نقول : شهد هذا الشاهد بحق ولا حلف هذا الحالف على حق ، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق يقينا ، ولكن الله قال : احكموا بشهادة العدل ، ويمين المدعى عليه إذا لم تقم عليه بينة ، وهذا فرق لا خفاء به ، فلم نحكم بالظن في شيء من ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع فإذا قالوا إنما قال الله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات : ١٢) ولم يقل كل الظن إثم (قلنا) قد بين الله تعالى لنا الإثم من البر ، وبين أن القول عليه بما لا يعلم حرام ، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك.
قال ابن حزم : فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرناها ، وظنوا أنهم يتخلصوا بذلك ، ولم يتخلصوا ، بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا فهو لازم لهم ، وذلك إنا نقول : أخبرونا عن الأخبار التي رواها ، الآحاد ، أهي كلها حق إذا جاءت من رواية الثقات خاصة أم كلها باطل. أم فيها حق وباطل؟ فإن قالوا فيها حق وباطل ، وذلك قولهم.