يرى بالأبصار عيانا يراه المؤمنون فوق رءوسهم ، إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك ولا يتكلم فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد ما هو الصواب فيه لا نصا ولا ظاهرا ولا بينة.
ومنها : أن يكون أفضل الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم الذي هو من أهم أصول الإيمان. وذلك إما جهل ينافي العلم ، وإما كتمان ، ولقد أساء الظن بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل والسكوت عن بيان الحق تولد بينهما جهل الحق وإضلال الخلق. ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل صاروا يأتون من العبارت بما يدل على التعطيل والنفي نصا وظاهرا ولا يتكلمون بما يدل على حقيقة الإثبات لا نصا ولا ظاهرا. وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو ظاهر في الإثبات حرفوه أنواع التحريفات ، وطلبوا له مستكره التأويلات ومنها : أنهم التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع والتسبيح وقيام الليل ، ولم تكن الحقائق من شأنهم ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال ، ولم يستفيدوا منها يقينا ولا علما لما يجب لله ويمتنع عليه ، إذ ذاك أنما يستفاد من عقول الرجال. فإن قيل : استفدنا منها الثواب على ، تلاوتها وانعقاد الصلاة بها. قيل : هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول وهو الهدى والإرشاد والدلالة على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها ، فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة وانعقاد الصلاة بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهتدي به علما وعملا ، ويبصر من العمى ويرشد من الغى ، ويعلم من الجهل ويشفى من العى ، ويهدي إلى صراط مستقيم ، وهذا القصد ينافي قصد تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة التي هي من جنس الألغاز والأحاجى ؛ فلا يجتمع قصد الهدى والبيان وقصد ما يضاده أبدا.
ومما يبين ذلك أن الله تعالى وصف كتابه بأوضح البيان وأحسن التفسير فقال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] فأين بيان المختلف فيه والهدى والرحمة في ألفاظ