كانا أعلم بالله من ذلك وأصح أفهاما ، أفترى فهم أحد من قول الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ونظائره ، أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم على ذلك دون انفراد كل واحد منكم به ، فيا للعجب من أوراق وقلوب تسود على هذه الهذيانات (١).
والصواب أن يقول : إن آدم لما قاسمه عدو الله أنه ناصح له ، وأخرج الكلام على أنواع متعددة من التأكد ؛ أحدها : القسم ، الثاني : الإتيان بجملة اسمية لا فعلية ، والثالث : تصديرها بأداة التأكد أحدها القسم ، الرابع : الإتيان بلام التأكيد في الخبر ؛ الخامس : الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحديث ؛ والسادس : تقديم المعمول فيه. ولم يكن آدم يظن أن أحدا يقسم بالله كاذبا غموسا يتجرأ فيها هذه الجرأة ، فغره عدو الله بهذا التأكد ، فظن آدم صدقه ، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ؛ ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح ، ولعله يتهيأ له استدراك مفسده النهي في أثناء ذلك ، إما باعتذار وإما بتوبة ، كما تجد هذا التأويل قائما في نفس كل مؤمن أقدم على المعصية (٢).
__________________
(١) وقالت طائفة : أكلها ناسيا ، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد على الأكل ، قال القرطبي : وهذا هو الصحيح قال : لإخبار الله تعالى حيث قال : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (طه : ١٥٥) ، ولكن لما كان الأنبياء عليهمالسلام يلزمهم التيقظ والتحفظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ، كان تشاغله عن تذكر النهى تضييعا صار به مخالفا. قال أبو أمامة : لو أن أحلام بنى آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ، ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله تعالى : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، ويحتمل أن يخص من عموم كلام أبي أمامة نبينا صلىاللهعليهوسلم فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا ، وقال القرطبي : ويحتمل أن يخص منه الأنبياء عليهمالسلام ا. ه المصدر السابق.
(٢) وذكر هذا القول الشيخ ابن مفلح في كتابه «مصائب الإنسان» وعزاه لشيخ الإسلام ابن تيمية ونقل أيضا عن أبى محمد بن حزم في «الملل والنحل» قال : لا براءة من المعصية أعظم من حال من ظن أن أحدا لا يحلف حانثا ، وهكذا فعل آدم عليهالسلام ، فإنه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها ناسيا لنص القرآن ومتأولا وقاصدا إلى الخير ، لأنه قدر أنه يزداد حظوة عند الله فيكون ملكا مقربا أو خالدا فيما هو فيه أبدا ، فأداه ذلك إلى