قام الإمام فغسّل الجسد الطاهر ومعه الحسنان وزينب وأسماء ، وقد أخذت اللوعة بمجامع قلوبهم ، وبعد أن أدرج جسدها في أكفانها دعا بأطفالها الذين لم ينتهلوا من حنان أمّهم ليلقوا عليها نظرة الوداع ، ومادت الأرض من كثرة صراخهم وبكائهم ، ثمّ عقد الرداء عليها. ولمّا حلّ الهزيع الأخير من الليل قام فصلّى عليها ومعه النخبة من أصحابه بحمل الجثمان المعظّم إلى مثواه الأخير ولم يخبر أحدا سواهم ، ثمّ أودع الجثمان في قبرها وأخفاه امتثالا لوصيّتها ، ووقف على حافّة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه ، واندفع يؤبّنها بهذه الكلمات :
السّلام عليك يا رسول الله عنّي ، وعن ابنتك النّازلة في جوارك ، والسّريعة اللّحاق بك! قلّ يا رسول الله ، عن صفيّتك صبري ، ورقّ عنها تجلّدي ، إلاّ أنّ في التّأسّي لي بعظيم فرقتك ، وفادح مصيبتك ، موضع تعزّ ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك ، وفاضت بين نحري وصدري نفسك « فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ». فلقد استرجعت الوديعة ، وأخذت الرّهينة! أمّا حزني فسرمد ، وأمّا ليلي فمسهّد ، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم. وستنبّئك ابنتك بتضافر أمّتك على هضمها ، فأحفها السّؤال ، واستخبرها الحال ؛ هذا ولم يطل العهد ، ولم يخل منك الذّكر ، والسّلام عليكما سلام مودّع ، لا قال ولا سئم ، فإن أنصرف فلا عن ملالة ، وإن أقم فلا عن سوء ظنّ بما وعد الله الصّابرين (١).
وحكت هذه الكلمات حزنه العميق وألمه الممضّ على فقده لوديعة رسول الله ، كما حكت ما تقدّم به من الشكوى لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما ألّم ببضعته من الكوارث التي تجرّعتها من القوم ، ويطلب منه أن يلحّ عليها في السؤال لتخبره بما جرى عليها تفصيلا من الظلم والضيم في تلك الفترة القصيرة التي عاشتها من بعده.
__________________
(١) نهج البلاغة ٢ : ١٨٢.