فانبرى بعض الحاضرين فسدّد سهما لما رامه النبيّ ، فقال ـ ويا لهول ما قال! ـ :
إنّ النبيّ ليهجر (١)! ما أعظم هذه الجرأة على النبي! ما أقسى هذا الاعتداء على مركز النبوّة! يا لها من كلمة تحمل جميع ألوان الشرور! ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى في حقّ نبيّه العظيم : ( ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) (٢)؟
ألم تمرّ عليه هذه الآية في سموّ مكانة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ) (٣)؟
بلى والله! لقد سمع هذا القائل ما أنزل الله من الآيات في كتابه المجيد في شأن رسوله الكريم ، ولكن الأطماع السياسية دفعته إلى هذا الموقف الذي يحزّ في نفس كلّ مسلم .. وكان ابن عباس حبر الامّة إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يذوب لوعة ويبكي حتى تسيل دموعه على خدّيه كأنّها نظام اللؤلؤ وهو يقول :
يوم الخميس ، وما يوم الخميس؟ قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « ائتوني بالكتف والدّواة أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا » ، فقالوا : إنّ رسول الله يهجر (٤).
حقّا لأن يجزع ابن عبّاس ويبكي بأمرّ ألوان البكاء ، فقد دهمت المسلمين
__________________
(١) نصّ على هذه الحادثة المؤلمة جميع المؤرّخين في الإسلام ، ذكرها البخاري في صحيحه عدّة مرّات في ٤ : ٦٨ ـ ٦٩ و ٦ : ٨ ، وقد كتم اسم القائل ، وفي نهاية ابن الأثير ٤ : ١٣٠ ، وشرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٣ : ١١٤ وغيرهما تصريح باسمه.
(٢) النجم : ٢ ـ ٥.
(٣) التكوير : ١٩ و ٢٠.
(٤) مسند أحمد بن حنبل ١ : ٣٥٥.