لحفظنا ، وذاك أن اللفظ لا يفهم إلا القريب دون البعيد ، وإلا الشيء بعد الشيء ، ويسرع إليه مع ذلك الاضمحلال ، فربما لا يعيه السمع ، وإذا وعاه فربما لم يتصوّره ، وإذا تصوّره فربما أخلّ به الحفظ فأعانه الله بالكتابة ، لتكون تكملة لقوة النطق ، وواعية لما يضيع من الفهم ، ومدركة جملة في حالة واحدة ، فعلم من ذلك أن الكتابة وإن كانت شريفة فإنما احتجنا إليها لنقصنا وتكميل أفهامنا ، فمن حمل الكتابة على الحقيقة قال : كتب الملأ الأعلى أعمالنا ، لا لجبران نقصهم وضعف فهمهم وخوف نسيانهم ؛ ولكن لجبران نقيصة البشر ، وليتذكّر به ما لعله نسي ، وليرى صورة أعماله المتفرّقة دفعة ، ومن حمله على التشبيه فإنه ذكر أن نقص القريحة والسهو والنسيان الموجودة فينا في الدنيا معدومة عنّا في الآخرة ؛ فلا حاجة بنا إلى الكتابة ، وحينئذ قال : وعلى ذلك وصف الكتابة بالنطق في قوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ)(١) وقوله : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)(٢) وعلى هذا سمّى
__________________
ـ والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر». البحر المحيط (٣ / ١٣٦).
وانظر : الوسيط (١ / ٥٢٨) ، ومعالم التنزيل (٢ / ١٤٤) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٣٠٨) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٩٤) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٣٢٠).
(١) سورة الجاثية ، الآية : ٢٩.
(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٤٥.