للشارع جعل وإنشاء يتعلق بأفعال العباد يتضمن البعث والتحريك والإرادة والكراهة (١) وأما لو قلنا : بأنه ليس الحكم الشرعي إلا عبارة عن العلم باشتمال الافعال على المصالح والمفاسد من دون أن يكون في البين جعل يقتضي الإرادة والكراهة لا في المبدأ الاعلى ولا في المبادي العالية ـ كما حكي عن بعض احتماله بل الالتزام به ـ فلا يبقى موقع لتقسيم الاحكام إلى التكليفية والوضعية ، كما لا يخفى.
ولكن احتمال أن لا يكون في البين إلا العلم بالصلاح والفساد من دون أن يستتبع العلم بذلك الجعل والتشريع في غاية الوهن والسقوط ، لأنه يلزم على هذا
__________________
١ ـ أقول : حقيقة الإرادة إذا كانت عبارة عن الشوق الأكيد فهو من الكيفيات القائمة بالنفس ولم يكن من الايجاديات بالاختيار بلا واسطة فلا يكون هذه المرتبة نظير المصلحة والعلم بها من الانشائيات أيضا ، كما أن مدار حكم العقل بوجوب الامتثال أيضا ليس إلا العلم بهذه المرتبة من اشتياق المولى ولو لم يحمل نفسه إلى العمل من جهة علمه بعدم امتثاله ، وحينئذ لا يبقى في البين إلا إبراز إرادته لمحض إتمام الحجة على عبده ، وفي هذا الابراز لا يلزم أن ينشأ بكلامه مفهوم الطلب أو الإرادة ـ كما هو الشأن في كلية الانشاء الذي هو مقابل الاخبار من شؤون المفاهيم ـ بل يكفي لتحريك العقل نحو الامتثال إبراز شوقه بإخباره به بقوله : أريد أو أشتاق. نعم : من نفس الابراز ينتزع العقل بعناية عنوان البعث والتحريك وبعناية أخرى عنوان الالزام واللزوم والايجاب والوجوب ، فهذه العناوين ايجادية بايجاد الابراز ، وليس دخلها في حكم العقل دخلا موضوعيا بل طريقيا صرفا. وحينئذ إن أريد من جعلية التكليف جهة الاعلام باشتياقه ، فليس ذلك من الاعتبارات الجعلية ، بل من التكوينيات الخارجية كاحداث سائر الكيفيات الأخرى. وإن أريد به جهة الاعتبارات الأخرى الطارية على الاعلام فهي أجنبية عن جعل الجاعل.
وبعبارة أخرى نقول : إن الجعل في الأحكام الوضعية في الحقيقة راجع إلى إحداث أمر اعتباري في عالم الاعتبار بنفس الجعل ، وفي الأحكام التكليفية راجع إلى تكوين الوصول الخارجي الذي هو أجنبي عن الاعتباريات ، وإنما هو موضوع اعتباريات أخرى قهرية مترتبة على هذا الاعلام والايصال من دون أن يكون قوامها بجعل جاعل ، وحينئذ تقسيم الاحكام الجعلية إلى التكليفية والوضعية ليس بمساق واحد ، كما لا يخفى.