فلمّا مهد أرضه (١) ، وأنفذ أمره ، اختار آدم ، عليه السّلام ، خيرة من خلقه (٢) وجعله أوّل جبلّته (٣) وأسكنه جنّته ، وأرغد فيها أكله وأوعز إليه فيما نهاه عنه ، وأعلمه أنّ فى الاقدام عليه التّعرّض لمعصيته ، والمخاطرة بمنزلته فأقدم على ما نهاه عنه ـ موافاة لسابق علمه ـ فأهبطه بعد التّوبة ، ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلى ودائع رسالاته ، قرنا ، فقرنا ، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ حجّته ، وبلغ المقطع عذره ونذره (٤) ، وقدّر الأرزاق فكثّرها وقلّلها وقسّمها على الضّيق والسّعة فعدل فيها ليبتلى من أراد بميسورها ومعسورها ، وليختبر بذلك الشّكر والصّبر من غنيّها وفقيرها ، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها (٥) وبسلامتها طوارق آفاتها ، وبفرج أفراحها (٦)
__________________
(١) مهد أرضه : سواها وأصلحها ، ومنه المهاد ، وهو الفراش ، وتقول : مهدت الفراش ـ من باب قطع ـ أى : بسطته وسويته
(٢) يجوز فى خيرة أن تكون بكسر الخاء وفتح الياء ـ بوزان عنبة ـ وهو الاسم من قولك : اختار اللّه محمّدا ، ويجوز أن تكون بكسر الخاء والياء ساكنة
(٣) خلقته
(٤) المقطع : النهاية التى ليس وراءها غاية
(٥) العقابيل : الشدائد. جمع عقبولة ـ بضم العين ـ وأصل العقابيل قروح صغار تخرج بالشفة من آثار المرض ، والفاقة : الفقر
(٦) الفرج : جمع فرجة ، وهى التفصى من الهم (١٢ ـ ن ـ ج ـ ١)