استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصّروا ، وتقدم وتأخروا ، ولأن كلامه عليه السلام الكلام الذى عليه مسحة من العلم الإلهى (١) وفيه عبقة من الكلام النبوى ، فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ، ومنشور الذكر ، ومذخور الأجر. واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام فى هذه الفضيلة ، مضافة إلى المحاسن الدّثرة ، والفضائل الجمة (٢). وأنه ، عليه السلام ، انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر ، والشاذ الشارد (٣). وأما كلامه فهو من البحر الذى لا يساجل (٤) والجم الذى لا يحافل (٥) وأردت أن يسوغ لى التمثل فى الافتخار به عليه السلام ، بقول الفرزدق : ـ أولئك آبائى فجئنى بمثلهم إذا جمعتنا ، يا جرير ، المجامع
ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة : أولها : الخطب والأوامر ، وثانيها : الكتب والرسائل ، وثالثها : الحكم والمواعظ ، فأجمعت بتوفيق اللّه تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب ، (٦) ثم محاسن الكتب ، ثم محاسن الحكم والأدب. مفردا لكل صنف من ذلك بابا ، ومفصّلا فيه
__________________
(١) عليه مسحة من جمال مثلا ، أى : شىء منه. وكأنه يريد بهاء منه وضياء ، والعبقة : الرائحة.
(٢) اعتمدت : قصدت ، والدثرة بفتح فسكون : الكثيرة
(٣) يؤثر : أى ينقل عنهم ويحكى.
(٤) لا يغالب فى الامتلاء وكثرة الماء.
(٥) لا يغالب فى الكثرة ، من قولهم : ضرع حافل ، أى : ممتلىء كثير اللبن.
(٦) أجمع عليه : عزم ، والمحاسن : جمع حسن على غير قياس.