على أفواه الأغماد ، ومن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها ، ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها ، ومن قدّم صالحا فلا بدّ أن يوازيه ، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه. ولمّا تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار ، وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار ، كلّها يفصح قولا ، ويقول : أنا أحقّ وأولى ، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي ، ويتلو إذا بشّر بك (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) [الكهف : ٦٤] ، تنمّرت حمص غيظا ، وكادت تفيظ فيظا (١) وقالت : ما لهم يزيدون وينقصون ، ويطمعون ويحرصون ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [يونس : ٦٦]. ألهم (٢) السّهم الأسدّ ، والساعد الأشدّ ، والنهر ، الذي يتعاقب عليه الجزر والمدّ ، أنا مصر الأندلس والنّيل نهري ، وسمائي (٣) التأنّس والنجوم زهري ، إن تجاريتم في ذلك الشرف ، فحسبي أن أفيض في ذلك الشرف ، وإن تبجحتم بأشرف اللبوس ، فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس ، لي ما شئت من أبنية رحاب ، وروض يستغني بنضرته عن السّحاب ، قد ملأت زهراتي وهادا ونجادا ، وتوشّح سيد نهري بحدائقي نجادا ، فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحقّ ، (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) [يوسف : ٥١].
فنظرتها قرطبة شزرا ، وقالت : لقد كثّرت نزرا. وبذرت في الصخر الأصمّ بزرا ، كلام العدى ضرب من الهذيان ، وأنّى للإيضاح والبيان ، متى استحال المستقبح مستحسنا ، ومن أودع أجفان المهجور وسنا ، (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) [فاطر : ٨]. يا عجبا للمراكز يقدّم على الأسنّة ، وللأثفار تفضّل على الأعنّة ، إن ادّعيتم سبقا ، فما عند الله خير وأبقى ، لي البيت المطهر الشريف ، والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف ، في بقيعي محل الرجال الأفاضل ، فليرغم أنف المناضل ، وفي جامعي مشاهد ليلة القدر ، فحسبي من نباهة القدر ، فما لأحد أن يستأثر عليّ بهذا السيد الأعلى ، ولا أرضى (٤) له أن يوطئ غير ترابي نعلا ، فأقرّوا لي بالأبوّة ، وانقادوا لي على حكم النبوّة ، (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) [النحل : ٩٢] ، وكفّوا عن تباريكم ، (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) [البقرة : ٥٤].
فقالت غرناطة : لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم ، ولا تجري إلّا تحته جياد الغيث (٥) السّجوم ، فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف ، ولا يهتدي إليّ خيال طارق ولا طيف ، فاستسلموا قولا وفعلا ، فقد أفلح اليوم من استعلى ، لي بطاح تقلّدت من جداولها
__________________
(١) تنمرت غيظا : أي أصبحت كالنمر من الغيظ.
وتفيظ فيظا : تموت موتا.
(٢) في ب : لي.
(٣) في ب : وسماء.
(٤) في ب : ولا أرتضي.
(٥) في ب : الغيم.