حين ينتثر الحبّ ، وصرفت أشراف الشام أعنّتها إلى التماس خيره ، وطارت بأجنحة العزائم تيمّنا بطيره ، وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره ، ففتحت الأقفال ، ونفلت الأنفال ، ونجح الفال ، ووسمت الأغفال ، وافتتحت البلاد الشهيرة ، وانتقيت العذارى الخيرة ، واقتنيت الذخيرة ، وتجاوز الإسلام الدروب وتخطّى ، وخضد الأرطى (١) ، وأركب وأمطى ، واستوثق واستوطا ، وتثاءب وتمطّى ، حتى تعدّدت مراحل البريد ، وسخنت عين الشيطان المريد ، واستوسق للإسلام ملك ضخم السّرادق ، مرهوب البوارق ، رفيع العمد ، بعيد الأمد ، تشهد بذلك الآثار والأخبار ، والوقائع الكبار ، والأوداق والأمطار (٢) ، وهل يخفى النهار؟ ولكل هبوب ركود ، والدهر حسود لمن يسود ، فراجعت الفرنج كرّتها ، واستدركت معرّتها ، فدوّمت جوارحها وحلّقت ، وأومضت بوارقها وتألّقت ، وتشبّثت وتعلّقت ، وأرسلت الأعنّة وأطلقت ، وراجعت العقائل التي طلّقت ، حتى لم يبق من الكتاب إلّا الحاشية ، ولا من الليل إلّا الناشية ، وسقطت الغاشية ، وأخلدت الفئة المتلاشية ، وتقلّصت الظلال الفاشية ، إلّا أنّ الله تدارك بقوم رجّح من سلفنا أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ، وأخلصوا لله بأسهم وإقدامهم ، ووصلوا سيوفهم البارقة (٣) بخطاهم ، وأعطاهم منشور العز من أعطاهم ، حين تعيّن الدين وتحيّز ، واشتدّ بالمدافعة وتميّز ، وعادت الحروب سجالا ، وعلم الروم أنّ لله رجالا ، وقد أوفد جدّنا ـ رضي الله عنه! ـ على أبواب سلفكم من وقائعه في العدوّ كلّ مبشّرة ، ووجوه به مستبشرة (٤) ، ضحكت لها ثغور الثغور ، وسرت بها في الأعطاف حميّا السرور ، وكانت المراجعة عنها شفاء للصدور ، وتمائم في درر النحور (٥) ، وخفرا في وجوه البدور ، فإن ذمام الإسلام موصول ، وفروعه تجمعها في الله أصول ، وما أقرب الحزن ممّن داره صول (٦) ، والملّة ـ والمنّة لله ـ واحدة ، والنفوس لا منكرة للحقّ ولا جاحدة ، والأقدار معروفة ، والآمال إلى ما يوصل إلى الله مصروفة ، فإذا لم يكن الاستدعاء ، أمكن الدعاء ، والخواطر فعّالة ، والكلّ على الله عالة ، والدين غريب والغريب يحنّ إلى أهله ، والمرء كثير بأخيه على بعد محلّه.
انتهى المقصود من المخاطبة مما يتعلّق بهذا الباب ، والله سبحانه وتعالى الموفّق للصواب(٧).
__________________
(١) حضد العود : كسره. والأرطى : شجر له ثمر كالعناب.
(٢) في ب : والأوراق والأسطار.
(٣) في ب : الباترة.
(٤) في ب : ووجودية منتشرة.
(٥) في ب : وتمائم في الدور.
(٦) أخذ من قول حندج المرّي أحد شعراء الحماسة :
ما أقدر الله أن يدني على شحط |
|
من داره الحزن ممن داره صول |
(٧) في ب : وإليه المرجع والمآب.