آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى. ولمّا علمت نافذ عزمه ـ أبقاه الله تعالى! ـ في البنيان ، وكلفه به ، وفكّرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنيانها ـ مدّ الله تعالى في عمره ، وأوفى بها على أقصى أمله! ـ علمت أنّ أسّه وقوامه الصخر والاستكثار منه ، فأثارت لي همّتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدّك اللذان يبعثان ما لا يتوهّم عليه ، حيلة أقيم لك فيها بعام واحد عدد ما كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاما ، وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام ، سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلا إن شاء الله تعالى ، وكذلك ما ثاب إليّ في أمر الخشب لهذه المنية المكرّمة ، فإنّ ابن خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود ونيّف على عشرين ألف عود ، على أنه لا يدخل منه في السنة إلّا نحو الألفي عود ، ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة (١) لوقتها ، وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا والستّين ألفا ، انتهى.
ومن غريب ما يحكى عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنه أراد الفصد (٢) ، فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء ، واستدعى الطبيب لذلك ، وأخذ الطبيب الآلة وجسّ يد الناصر ، فبينما هو إذ أطلّ زرزور (٣) فصعد على إناء ذهب بالمجلس ، وأنشد :
[مجزوء الكامل]
أيها الفاصد رفقا |
|
بأمير المؤمنينا |
إنّما تفصد عرقا |
|
فيه محيا العالمينا |
وجعل يكرّر ذلك المرة بعد المرة ، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف ، وسرّ به غاية السرور ، وسأل عمّن اهتدى إلى ذلك وعلّم الزّرزور ، فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أمّ ولده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك ، وأعدّته لذلك الأمر ، فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار.
وذكر ابن بسّام أن أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدي له غلام من النصارى لم تقع العيون على شبهه ، فلمحه الناصر فقال لابن شهيد : أنّى لك هذا؟ قال : هو من عند الله ، فقال له الناصر : تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر ، فاستعذر واحتفل في هدية
__________________
(١) الجليبة : أراد الخشب المجلوب.
(٢) الفصد : شق العرق لاستخراج الدم.
(٣) الزرزور : طائر من نوع العصافير.