عدوّكم ، بعد أن كان بأسكم بينكم ، فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القوّاد والأجناد ، حتى باشره بالقوّة والمهجة والأولاد ، واعتزل النّسوان ، وهجر الأوطان ، ورفض الدّعة وهي محبوبة ، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة ، بطويّة صحيحة ، وعزيمة صريحة ، وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة ، وريح هابّة غالبة ، ونصرة من الله واقعة واجبة ، وسلطان قاهر ، وجدّ ظاهر ، وسيف منصور ، تحت عدل مشهور ، متحمّلا للنّصب (١) ، مستقلّا لما ناله في جانب الله من التعب ، حتى لانت الأحوال بعد شدّتها ، وانكسرت شوكة الفتنة عند حدّتها ، ولم يبق لها غارب إلّا جبّه ، ولا نجم لأهلها قرن إلّا جدّه (٢) فأصبحتم بنعمة الله إخوانا ، وبلمّ أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا ، حتى تواترت لديكم الفتوحات ، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات (٣) ، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم ، وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم ، يأتون من كل فجّ عميق ، وبلد سحيق ، لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، ولن يخلف الله وعده ، ولهذا الأمر ما بعده ، وتلك أسباب ظاهرة بادية ، تدلّ على أمور باطنة خافية ، دليلها قائم ، وجفنها غير نائم (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور : ٥٥] الآية ، وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب ، ولكلّ نبإ مستقرّ ولكلّ أجل كتاب ، فاحمدوا الله أيّها الناس على آلائه ، واسألوه المزيد من نعمائه ، فقد أصبحتم بخلافة أمير المؤمنين أيّده الله بالعصمة والسّداد ، وألهمه خالص (٤) التوفيق إلى سبيل الرشاد ، أحسن الناس حالا ، وأنعمهم بالا ، وأعزّهم قرارا ، وأمنعهم دارا ، وأكثفهم جمعا ، وأجملهم صنعا ، لا تهاجون ولا تذادون ، وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون ، فاستعينوا على صلاح أحوالكم ، بالمناصحة لإمامكم ، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عمّ نبيّكم ، صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ من نزع يدا من الطاعة ، وسعى في تفريق الجماعة ، ومرق من الدين ، فقد (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) [الحج : ١١] وقد علمتم أنّ في التعلّق بعصمتها ، والتمسّك بعروتها ، حفظ الأموال وحقن الدماء ، وصلاح الخاصّة والدّهماء ، وأنّ بقوام الطاعة تقام الحدود ، وتوفى العهود ، وبها وصلت الأرحام ، ووضحت الأحكام ، وبها سدّ الله الخلل ، وأمّن السّبل ، ووطّأ الأكناف ، ورفع الاختلاف ، وبها طاب لكم القرار ، واطمأنّت بكم الدار ، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به ، فإنه تبارك وتعالى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين ، وصنوف الملحدين ، الساعين في شقّ عصاكم ، وتفريق ملاكم ، الآخذين
__________________
(١) النصب : التعب.
(٢) في ب : جذّه.
(٣) في ب : بيمن خلافة.
(٤) في ب : بخالص.